خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٨٨
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨٩
وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩٠
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٩١
فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
٩٢
-يونس

الكشف والبيان

{ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل: شارة حسنة، لقوله: { { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } [القصص: 79] { وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ }. اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه [أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا] لتفتنهم بها فيضلّوا ويُضلّوا إملاءً منك، وهذا كقوله تعالى: { { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [الجن: 16-17]، وقيل: هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا [......] آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً، وقيل: هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله: { { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } [التوبة: 95] أي لأجل إعراضكم عنهم، ولم يحلفوا لتعرض عنهم.
{ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ }، قال عطية ومجاهد: أعفها، فالطمس: المحو والتعفية، وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيّرها عن هيئتها، قال محمد بن كعب القرضي: جعل سكّتهم حجارة، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة، وقال ابن عباس: إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً. قال ابن زيد: صارت حجارة ذهبهم، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وقال السدّي: مسخ الله أموالهم حجارة، النخل والثمار والدقيق والأطعمة، وكانت احدى الآيات التسع.
{ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
{ فَلاَ يُؤْمِنُواْ } قيل: هو نصب جواب الدعاء بالفاء، وقيل: عطف على قوله: [ليُضلوا].
قال الفراء: هو دعاء ومحله جزم كأنه: اللهم فلا يؤمنوا وقيل: معناه فلا آمنوا. { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [وقرأ علي والسملي: «دعواتكما» بالجمع وقرأ ابن السميقع: قد أجبت دعوتكما] خبراً عن الله تعالى.
كقول الأعشى:

فقلت لصاحبي لا تعجلانابنزع أصوله واجتز شيحاً

{ فَٱسْتَقِيمَا } على الرسالة والدعوة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله.
قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
{ وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ } نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعَنْ، فيفتح النون لالتقاء الساكنين، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تُثقّل وتخفف.
{ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي؛ فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما، ووعيدي نازل بفرعون وقومه.
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ } الآية، وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و [تَبَعا] بنو إسرائيل من القبط [فأخرجهم] بعلة عرس لهم وسرى بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفاً لا يُعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة، [إلى البحر وقال لكما] القبط تلك الليلة، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله:
{ { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } [الشعراء: 60] بعدما دفنوا أولادهم، فلمّا بلغ فرعون ركب [البحر] ومعه ألف ألف وستمائة ألف.
قال محمد بن كعب: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان، وكان [........] وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل، كلٌ قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة، وفرعون خلفهم في الدميم، فقالت بنو إسرائيل لموسى: أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا [إن عبرناه] غَرِقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، ولقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
فقال موسى: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون، وقال: كلا إنّ معي ربي سيهدين، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم ينفلق وقال: أنا أقدم منك وأشد خلقاً، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل: انفلق أبا خالد بإذن الله عزّ وجل، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق. وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل.
وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضاً ولا يسمع بعضهم كلام بعض، فقال كل فريق: قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض.
فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون: هابني البحر، وهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على فرس وديق وخاض البحر وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلاّ ضمّه إليهم.
فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل، وفرعون لا يراه انْسَلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئاً واقتضمت الخيول في الماء، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم، فلمّا أدرك فرعون الغرق: { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر، وقال: { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ }.
قال أبو بكر الوراق: قال الله لموسى وهارون: { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44] حين لم ينفعْه تذكّره وخشيته.
قال كعب: لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون: [إن كنت ربّنا فأجرِ لنا الماء]، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة: ليقف فلان بجنوده قائداً قائداً فجعلوا يقفون على درجاتهم [وقفز] حتى بقي هو وخاصته، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حُجّابه وخُدّامه، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه [ونزل عن دابته] ولبس ثياباً أُخر وسجد وتضرع إلى الله، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه؟ [فكتب فرعون: جزاؤه أن يغرق في البحر].
فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون ولا يموت أبداً، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً، فذلك قوله تعالى: { وَجَاوَزْنَا } أي قطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جازوه، وقرأ الحسن [وجوزنا، وهما لغتان].
{ فَأَتْبَعَهُمْ } فأدركهم، يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه [واقتدى به] { فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ }.
{ بَغْياً وَعَدْواً } ظلماً واعتداءً، يقال: عدا يعدو عدواً مثل: غزا يغزو غزواً، وقرأ الحسن [عُدوّاً] بضم العين وتشديد الواو مثل: علا يعلو عُلوّاً. قال المفسرون: بغياً في القول وعدواً في الفعل.
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ } أي أحاط به { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ } قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت: إنّه، وهي قراءة عبد الله. وقرأ الآخرون: أنّ بالفتح لوقوع آمنت عليها، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم.
{ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } قال جبرئيل { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ }.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قال لي جبرئيل: ما أبغضت أحداً من عباد الله إلاّ أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" .
{ فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو: المكان المرتفع، قال أوس بن حجر:

فمن بعقوته كمن بنجوتهوالمستكنّ كمن يمشي بقرواح

{ بِبَدَنِكَ } بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي: البدن هاهنا الدرع وكان دارعاً. قال الأعشى:

وبيضاء كالنهى موضونةلها قونس فوق جيب البدى

وقرأ عبد الله: فاليوم ننجيك ببدنك، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل: شعرك.
{ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } عبرة وعظة. وقرأ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): لمن خلقك (بالقاف)،أي تكون آية لخالقك.
{ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } قال مقاتل: يعني أهل مكة، قال الحسن: هي عامة.
{ عَنْ آيَاتِنَا } عن الإيمان بآياتنا { لَغَافِلُونَ }.