خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
٨٤
وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٨٥
بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
٨٦
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ
٨٧
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
٨٨
وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ
٨٩
وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
٩٠
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
٩١
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٩٢
وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ
٩٣
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩٤
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
٩٥
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٩٦
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
٩٧
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ
٩٨
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ
٩٩
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ
١٠٠
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
١٠١
وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
١٠٢
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
١٠٣
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ
١٠٤
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
١٠٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
١٠٦
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٠٧
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
١٠٨
فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
١٠٩
-هود

الكشف والبيان

{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ } يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم، { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم.
{ قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } وكانوا يطفِّفون { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال ابن عباس (رضي الله عنه): موسرين في نعمة، الحسن: الغنى ورخص السعر، قتادة: المال وزينة الدنيا، الضحاك: رغد العيش وكثرة المال، مجاهد: خصب وسعة، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } محيط بكم فلا يفلت منكم أحد.
{ وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } اكتالوا بالقسط { وَلاَ تَبْخَسُواْ } ولا تنقصوا { ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، قال مجاهد: الطاعة، سفيان: رزق الله، قتادة: حظكم من ربكم، ابن زيد: الهلاك في العذاب والبقية: الرحمة، الفرّاء: مراقبة الله { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } وإنما قال هذا لأن شعيباً لم يؤمر بالقتال.
{ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } من الأوثان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا، قال الأعمش: يعني قراءتك { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ بعضهم: تفعل وتشاء بالتاء يعني: تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعاً إلى الأمر لا إلى الترك.
قال أهل التفسير: كان هذا نهياً لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا: وأن نفعل ما نشاء { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } قال ابن عباس: السفية الغاوي. قال القاضي: والعرب تصف الشيء بضده، للتطير والفأل كما قيل للدّيغ: سليم، وللفأرة: مفازة.
وقيل: هو على الاستهزاء، كقولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجون، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل:
{ { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49]. وقيل: معناه الحليم الرشيد بزعمك وعندكن ومثله في صفة أبي جهل، وقال ابن كيسان: هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم، كقول قوم صالح له: { يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً }.
{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ } حجّة وبصيرة وبيان وبرهان { مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } حلالا طيباً من غير بخس ولا تطفيف، وقيل: علماً ومعرفة { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه { إِنْ أُرِيدُ } ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه { إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل: إليه أرجع في الآخرة.
{ وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } لا يحملنكم { شِقَاقِيۤ } خلافي وفراقي { أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } من العذاب { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط، وقيل: ما دارُ قوم لوط منكم ببعيد { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } محبّ المؤمنين، وقيل: مودود للمؤمنين ومحبوبهم.
{ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } وذلك أنه كان ضريراً، قال سفيان: كان ضعيف البصر، وكان يقال له خطيب الأنبياء { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه { لَرَجَمْنَاكَ } لقتلناك { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } قيل: الهاء راجعة إلى الله وقيل: إلى أمر الله وما جاء به شعيب، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه، يقال: جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه.
{ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } أي تؤدتكم ومكانكم، يقال: فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّهُ تمكن. ويقال: مُكن يمكن مكناً مكاناً ومكانة، { إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } أيّنا الجاني على نفسه، والأخطى في فعله، وذلك قوله { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } قيل:
{ مَن } في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب، وقيل: ويخزي من هو كاذب،وقيل: محله رفع تقديره: ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره { وَٱرْتَقِبُوۤاْ } وانتظروا العذاب { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } منتظر.
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم، ويقال: إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم.
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ميتين ساقطين هلكى صرعى { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } يكونوا { فِيهَآ أَلاَ بُعْداً } هلاكاً وغضباً { لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ } هلكت { ثَمُودُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حجة بيّنة { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } وخالفوا أمر موسى { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ } أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يوم القيامة { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } وبئس المدخل المدخول فيه.
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ } العون المعان، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } خراب، ابن عباس: قائم ينظرون إليه، وحصيد قد خرب وهلك أهله، مقاتل: قائم يعني له أثر، وحصيد لا أثر له، مجاهد: قائم: خاوية على عروشها وحصيد: مستأصل يعني محصوداً كالزرع إذا حصد، قال قتادة: القائم منها لم يذهب أصلا، ومنها حصيد قد ذهب أصلا، القرضي: منها قائم بجدرانهاوحيطانها، وحصيد: ساقط، محمد بن إسحاق: منها قائم يعني [.....] وأمثالها من القرى التي لم تهلك،وحصيد يعني التي قد أهلكت.
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بالعذاب والأهلاك { وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعصية يظلمون { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ } عذاب { رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } غير تخسير.
{ وَكَذٰلِكَ } وهكذا أخذ ربك { أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } نظير قوله:
{ { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12].
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ } لعبرة وعظة { لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ذٰلِكَ } يعني يوم القيامة { يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ } قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي [......] { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } يشهده أهل السماء وأهل الأرض.
{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ } يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة { إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر { يَوْمَ يَأْتِ } وقرئ بإثبات الياء وحذفه، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء والضمة من الواو، كقول الشاعر:

كفاك كفّ ما تليق ودرهماجوداً وأخرى تُعط بالسيف الدما

{ لاَ تَكَلَّمُ } أي: لا تتكلم { نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } نظير { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [القدر: 4] أي: تتنزل.
قال لبيد:

والعين ساكبة على أطلائهاعوذا تأجّل بالفضاء بهامها

(أي تتأجل).
{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } قال ابن عباس: فمنهم شقي كتبت عليه السعادة، وروى عبد الله ابن دينار عن ابن عمر
"عن عمر، قال: لمّا نزلت هذه الآية سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله فعلى ما عملنا، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام ولكن كلٌّ ميسّر لما خلق له" .
وروي عنه (عليه السلام): "الشقي من شقي في بطن أُمّه، والسعيد من سعد في بطن أُمّه" .
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق } قال ابن عباس: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، الضحّاك ومقاتل: الزفير: أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردّده في الجوف. أبو العالية: الزفير في الحلق،والشهيق في الصدر { خَالِدِينَ } لابثين ومقيمين { فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } يسمى هنا { مَا } الوقت.
قال ابن عباس: ما دامت السماوات والأرض من ابتدائها إلى وقت فنائها، قال الضحّاك: ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك فأظلَّك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.
قال الحسين: أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، قال أهل المعاني: العرب [...] في معنى التأبيد والخلود، يقولون: هو باق ما [...] وأطت الإبل، وأينع الثمر، وأورق الشجر، ومجن الليل وسال سيل، وطرق طارق، وذرّ شارقن ونطق ناطق، وما اختلف الليل والنهار، وما اختلف الذرة والجمرة، وما دام عسيب، وما لألأت العفراء ونابها، وما دامت السماوات والأرض، فخاطبهم الله تعالى بما تعارفوا بينهم.
ثم استثنى فقال: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } اختلف العلماء في هذين الاستثناءين، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم الله من النار.
قال ابن عباس: وما شاء ربك أن يخرج أهل التوحيد منها، وقال في قوله في وصف السعداء: ألا ما شاء ربك أن يخلدهم في الجنة، وقال قتادة: في هذه الآية الله أعلم بها، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم الله منها، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون.
وقال أبو مجلز: هو جزاؤه إلاّ أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، وفي وصف السعداء إلاّ ما شاء ربك بقاءهم في الجنة. قال ابن مسعود: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها إلاّ ما شاء ربك. وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدّد خلقهم.
قال: وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وقال الشعبي: جهنم أسرع الدارين عمراً أسرعهما خراباً، وقال ابن زيد: في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال: هذا غير مجذوذ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار، وقال ابن كيسان: إلاّ ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، وقيل: ما شاء ربك من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث.
الزجّاج: في هذه الآية أربعة أقوال: قولان منها لأهل اللغة، وقولان لأهل المعاني، فأمّا أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا: { إِلاَّ } ههنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام: ما كان معنا رجل إلاّ زيد، ولي عليك ألف درهم إلاّ الألفان التي لي عليك، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود، والقول الثاني: إنّه استثنى من الاخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما يقول في الكلام: أردت أن أفعل كذا إلاّ أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، والمعنى أنّه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنّه أعلمهم أنهم خالدون فيها، قال الزجّاج: هذان مذهبا أهل اللغة.
وأما قولا أهل المعاني، فإنهم قالوا: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربك من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم للمحاسبة إلاّ ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم، وقال الفراء: معناه: وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، و { إِلا } بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة، قال الله تعالى { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [البقرة: 150] ومعناه، ولا الذين ظلموا، وأنشدني أبو ثروان:

من كان أشرك في تفرّق فالجفلبونه جربت معاً وأغدت
إلاّ كناشرة الذي ضيعتمكالغصن في غلوائه المثبت

معناه، لكن هنا كناشرة، وهي كاسم قبيلة، وقال: معناه كما شاء ربك كقوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 22]معناه كما قد سلف.
{ أَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } قرأ أهل الكوفة: (سُعدوا) بضم السين أي رُزقوا السعادة، وسعد وأُسعد بمعنى واحد، وقرأ الباقون بفتح السين قياساً على الذين شقوا، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم { فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ }. الضحّاك: إلاّ ما مكثوا في النار حتى أُدخلوا الجنة، أبو سنان: إلاّ ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض، وذلك هو الخلود فيها، قال الله { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } غير مقطوع.
وكيع بن الجراح: كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب الله، قال الله تعالى في وصف نعيم الجنة
{ { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [الواقعة: 33]وقالت الجهمية: يقطع فيمنع عنهم، وقال الله { { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [الرعد: 35] وقالوا: لا يدوم، وقال الله و { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [النحل: 96] وقالوا: لا يبقى، وقال الله { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } وقالوا: يُجذ ويُقطع.
{ فَلاَ تَكُ } يا محمد { فِي مِرْيَةٍ } في شك { مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ } فهم ضُلاّل.
{ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ } فيه إضمار أي: (كعبادة) { آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } حظهم من الجزاء { غَيْرَ مَنقُوصٍ }.