{ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ }، أي تتزاور، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف أحد الزاءين، وقرأ أهل الشام: { تَّزوَرُ } على وزن تحمرّ، وكلّها بمعنىً واحد، أي تميل وتعدل عن كهفهم { ذَاتَ ٱلْيَمِينِ }، أي جانب اليمين، { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ }، قال ابن عباس: تدعهم. قال مقاتل بن حيان: تجاوزهم. وأصل القرض: القطع. { ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ }، أي متّسع من الكهف، وجمعها فجوات وفجىً. أخبرنا الله تعالى بحفظه ايّاهم في مهجعهم، وعرفنا لطفه بهم في مضجعهم واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد فأعلمنا أنّه بوّأهم في مغناة من الكهف مستقبلاً بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية؛ لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغّير ألوانهم وتبلى ثيابهم، وإنهم في متّسع منه ينالهم فيه بَرد الريح ونسيمها وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه، { ذٰلِكَ } الذي ذكرت من أمر الفتية { مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ }: من عجائب صنع اللّه ودلالات قدرته وحكمته. { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ } أي يهدهِ اللّه { فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً } مُعينَاً { مُّرْشِداً } ؛ لأنّ التوفيق والخذلان بيد الله عزّ وجلّ.
{ وَتَحْسَبُهُمْ } يا محمد { أَيْقَاظاً } أي منتبهين، جمع يقِظ ويقَظ مثل قولك: رجل نجِد ونجَد للشجاع، وجمعه أنجاد، { وَهُمْ رُقُودٌ }: نيام، جمع راقد مثل قاعد وقعود، { وَنُقَلِّبُهُمْ }، وقرأ الحسن (ونقْلِبهم) بالتخفيف، { ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } مرّة للجنب الأيمن ومرّة للجنب الأيسر. قال ابن عباس: كانوا ينقلبون في السنة مرة إلى جانب من جانب، لئلا تأكل الأرض لحومهم. ويقال: إنّ يوم عاشوراء كان يوم تقليبهم. وقال أبو هريرة: كان لهم في كل سنة تقليبان. { وَكَلْبُهُمْ }، قال ابن عباس: كان أنمر. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرظي: شدة صفرته تضرب إلى الحمرة. الكلبي: لونه كالخلنج. وقيل: لون الحجر. وقيل: لون السماء. وقال علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه): «كان اسمه ريان». وقال ابن عباس: قطمير. وقال الأوزاعي: نتوى. وقال شعيب الجبائي: حمران. عبد الله ابن كثير: اسم الكلب قطمور. [قال] السّدي: نون. عبد الله بن سلام: بُسيط. كعب: أصهب. وهب: نقيا، وقيل: قطفير.
عن عمر قال: إن مما أُخذ على العقرب ألاّ يضر بأحد في ليله ونهاره: سلام على نوح، وإن مما أُخذ على الكلب ألاّ يضر من حمل عليه أن يقول: { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ }.
وقرأ جعفر الصّادق (وكالبهم) يعني: صاحب الكلب.
{ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ }، قال مجاهد والضّحاك: الوصيد: فِناء الكهف، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: الوصيد الصعيد، وهو التراب. وهذه رواية عطية العوفي عن ابن عباس. وقال السّدي: الوصيد الباب، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وأنشد:
بأرض فضاء لا يُسدّ وصيدهاعليّ ومعروفي بها غير منكر
أي بابها. وقال عطاء: الوصيد: عتبة الباب. وقال القتيبي الوصيد: البناء، وأصله من قول العرب، أصدت الباب وأوصدته، أي أغلقته وأطبقته. { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } ؛ لما ألبسهم الله تعالى من الهيئة حتى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يدُ لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله من رقدتهم لإرادة الله عزّ وجلّ أن يجعلهم آية وعبرة لمن شاء من خلقه؛ { لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا } [الكهف: 21].
{ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }: خوفاً، وقرأ أهل المدينة: (لملّئت) بالتشديد. وقيل: إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه. وقال الكلبي: لأن أعينهم مفتّحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام. وقيل: إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلاّ يراهم أحد. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم قال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله من هو خير منك، قال: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } . فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم. فبعث ناساً فقال: اذهبوا فانظروا. ففعلوا، فلمّا دخلوا الكهف بعث الله عز و جّل عليهم ريحاً فأخرجتهم فلم يستطيعوا الاطلاع عليهم من الرعب.
{ وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ } أي كما أنمناهم في الكهف، ومنعنا من الوصول إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيّام بقدرتنا، كذلك بعثناهم من النّومة التي تشبه الموت { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ }: ليتحدّثوا، ويسأل بعضهم بعضاً. { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } يعني: رئيسهم مكسلمينا: { كَم لَبِثْتُمْ } في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم. ويقال: إنه راعهم ما فاتهم من الصلاة، فقالوا ذلك. { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً }؛ لأنهم دخلوا الكهف غدوة، فلما رأوا الشمس قالوا: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } توقّياً من الكذب، وكانت قد بقيت من الشمس بقية. ويقال: كان بعد زوال الشمس. فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم تيقّنوا أن لبثهم أكثر من يوم أو بعض يوم، ف{ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } . ويقال: إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم قال ذلك. { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ } يعني: تمليخا { بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ }، والورِق: الفضّة؛ مضروبة كانت أو غير مضروبة. والدليل عليه أنّ عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكلاب فاتّخذ أنفاً من ورِق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب. وفيه لغات: (بورْقكم) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف، و(ورقكم) بسكون الراء وإدغام القاف وهي قراءة أهل مكة، و بفتح الواو وكسر الراء وهي قراءة أكثر القراء. و(ورِق) مثل كبْد وكَبِد وكِلْمة وكَلِمة.
(والمدينة): أفسوس، { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً } قال ابن عباس وسعيد بن جبير: أحلّ ذبيحةً، لأن عامّتهم كانوا مجوساً، وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. قال الضحّاك: أطيب. وقال مقاتل بن حيّان: أجود. وقال يمان بن رياب: أرفص. قتادة: خير. قال عكرمة: أكثر. وأصل الزكاة الزيادة والنّماء، قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثةولَلسبع أزكى من ثلاث وأطيب
{ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } أي قوت وطعام، { وَلْيَتَلَطَّفْ }: وليترفق في الشراء، وفي طريقه، وفي دخول المدينة، { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } من الناس، أي ولا يعلمن، أي إن ظُهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما يقع فيه.
{ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } فيعلموا بمكانكم { يَرْجُمُوكُمْ }، قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال: يقتلوكم. ويقال: كان من عادتهم القتل بالرجم وهو من أخبث القتل. وقيل: هو التوبيخ. ويضربوكم { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ }: دينهم الكفر { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } إن عدتم إليهم.
{ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا }، أي أطلعنا { عَلَيْهِمْ }، يقال: عثرت على الشيء إذا اطّلعت عليهم، فأعثرت غيري إذا أطلعته، { لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } يعني قوم تيدوسيس، { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ }، قال ابن عباس: تنازعوا في البنيان والمسجد، قال المسلمون: نبني عليهم مسجداً، لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنياناً؛ لأنهم من أهل سنّتنا. وقال عكرمة: تنازعوا في الأرواح والأجساد، فقال المسلمون: البعث للأرواح والأجساد، و قال بعضهم: البعث للأرواح دون الأجساد، فبعثهم الله من رقادهم وأراهم أن البعث للأرواح والأجساد. وقيل: تنازعوا في قدر لبثهم ومكثهم. وقيل: تنازعوا في عددهم، { فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ } يعني تيدوسيس الملك وأصحابه: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً }، وقيل: الذين تغلبوا على أمرهم، وهم المؤمنون. وهذا يرجع إلى الأوّل.
{ سيقولون ثلثة } وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وكان السيد يعقوبياً، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وكان نسطوريّاً، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين وصدّقهم بعد ما حكى قول النصارى، فقال { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } أي قذفاً بالظنّ من غير يقين، كقول الشاعر:
وأجعلُ منّي الحقّ غيباً مرجّما
{ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وقال بعضهم: هذه الواو واو الثمانية، إن العرب يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، لأن العِقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله تعالى: { { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } [التوبة: 112].
وقوله في صفة أهل الجنّة { { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [الزمر: 73].
وقوله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم { { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [التحريم: 5].
وقال بعضهم: هذه واو الحكم والتحقيق، فكأنه حكى اختلافهم فتمّ الكلام عند قوله: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ }، ثمّ حكم أن ثامنهم كلبهم، والثامن لا يكون إلاّ بعد السّبع، فهذا تحقيق قول المسلمين. { رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ }، قال قتادة: قليل من الناس. وقال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب. يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى. { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال: أنا من أُولئك القليل.
وهم: مكسلمينا، وتمليخا، ومرطونس، وسارينوس، وآنوانس، وروانوانس، ومشططيونس، وهو الرّاعي، والكلب واسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي ودون الكردي.
وقال محمد بن المسيب: القلطي: كلب صيني، و قال: ما بقي بنيسابور محّدث إلاّ كتب عنّي هذا الحديث إلاّ من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو، والحيري عني. { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ }، أي في عدّتهم وشأنهم { إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } وهو ما قصّ عليه في كتابه من خبرهم يقول: حسبك ما قصّصت عليك فلا تمارِ فيهم، { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَدا } من أهل الكتاب.