خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

الكشف والبيان

{ كُتِبَ } فُرض ووجب. { عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ } جاء.
{ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } يعني اسباب الموت وآثاره ومقدماته من العلل والأمراض ولم يُرد المعاينة.
{ إِن تَرَكَ خَيْراً } مالاً، نظيره قوله { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } { ٱلْوَصِيَّةُ } في رفعها وجهان: أحدهما: اسم مالم يسم فاعله وهو قوله "كتب"، والثاني: خبر حرف الصفة، وهو اللام في قوله { لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ } يعني لايزيد على الثلث ولايُوصي للغني ويدع الفقير. كما قال ابن مسعود: الوصيّة للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج.
{ حَقّاً } واجباً، وهو نصب على المصدر أي حق ذلك حقاً وقيل: على المفعول أي جعل الوصيّة حقاً، وقيل: على القطع من الوصيّة.
{ عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } المؤمنين، واختلف العلماء في معنى هذه الآية:
فقال قوم: كانت الوصيّة للوالدين والأقربين، فرضاً واجباً على من مات، وله مال حتى نزلت آية المواريث في سورة النّساء فنسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الذين يرثون، وبقى فرض الوصيّة للأقرباء الذين لايرثون والوالدين الذين لايرثان بكفر أو رق على من كان له مال. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية فقال:
"الآن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيّة لوارث فبيّن إنّ الميراث والوصيّة لايجتمعان" .
فآية المواريث هي لنّا حجة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبيّن هذا قول ابن عبّاس وطاووس وقتادة والحسن ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد والربيع وابن زيد.
قال الضحاك: من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاووس: من أوصى لقوم وسمّاهم، وترك ذوي قرابته محتاجين [أُنتزعت] منهم وردّت إلى ذوي قرابته.
وقال آخرون: بل نُسخ ذلك كلّه بالميراث فهذه الآية منسوخة. ولا يجب لأحد وصيّة على أحد قريب ولا بعيد. فإن أوصى فحسن، وأن لم يوص فلا شيء عليه، وهذا قول عليّ وابن عمر وعائشة وعكرمة ومجاهد والسّدي.
قال شُريح في هذه الآية. كان الرّجل يوصي بماله كلّه حتّى نزلت آية المواريث.
وقال عروة بن الزّبير: دخل علي (رضي الله عنه) على مريض يعوده فقال: إنّي أُريد أن أوصي. فقال علي عليه السلام: إنّ الله تعالى يقول { إِن تَرَكَ خَيْراً } وإنّما يدع شيئاً يسير فدعه لعيالك إنّه أفضل.
وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر: إنّه لم يوص فقال: أمّا مالي والله أعلم ما كنت أصنع به في الخلوة وأما رباعي لن يشرك ولدي فيها أحد.
وروى ابن أبي مليكة: إنّ رجلاً قال لعائشة: إنّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالُك؟ قال: ثلاثة الآف. قالت: كم عيالك؟
قال: أربعة: قالت: إنّما قال: الله تعالى { إِن تَرَكَ خَيْراً } وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك.
وروى سفيان بن بشير بن دحلوق قال: قال عروة بن ثابت للربيع بن خيثم: اوصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال:
{ { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } [الأحزاب: 6].
وروى سفيان عن الحسين بن عبد الله عن إبراهيم قال: ذكر لنّا إنّ زبيراً وطلحة كانا يُشددان في الوصيّة. فقال: ما كان عليهما أن لا يفعلا. مات النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يوصِّ وأوصى أبو بكر، أي ذلك فعلت فحسن.
{ فَمَن بَدَّلَهُ } أي فمن غيّر الوصيّة من الأوصياء والأولياء أو الشهود.
{ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } من الميت فإنّما ذكر الكناية عن الوصيّة وهي مؤنثة لأنّها في معنى الأيصاء لقوله { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } ردّه إلى الوعظ ونحوها كثيرة.
وقال المفضل: لأنّ الوصيّة قول فذهب إلى المعنى وترك اللفظ.
كقول امرىء القيس:

برهرهة رودة رخصة كخرعوبة اليانة المنقطر

المنقطر: المنتفخ بالورق وهو أَنعم ما يكون فذهب إلى القضيب فترك لفظ الخرعوبة.
{ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } وصي الميت.
{ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لوصاياكم.
{ عَلِيمٌ } بنيّاتكم.
{ فَمَنْ خَافَ } أي خشي، وقيل: علم وهو الأجود كقوله
{ { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ } [البقرة: 229].
وقال ابو محجن الثقفي:

فلا تدعني بالفلاة فانّني أخاف إذا مامتّ أن لا أذوقها

أراد: أعلم.
{ مِن مُّوصٍ } قرأ مجاهد وعطاء وحميد وابن كثير وابو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة ونافع: بالتخفيف واختاره أبو حاتم.
لقول النّاس: أوصيكم بتقوى الله.
قال أبو حاتم: قرأتها بمكّة بالتشديد أوّل ليلة أقمت فعابوها عليّ.
وقرأ الباقون: موصَ بالتشديد واختاره ابو عبيد كقوله:
{ { مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } [الشورى: 13].
{ جَنَفاً } جوراً وعدولاً من الحقّ والجنف: الميل في الكلام والأخذ كلّها يقال: جنف وأجنف وتجانف إذا مال. قال لبيد:

إنّي أمرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت عليّ خصوم

وقال آخر:

هم أقول وقد جنفوا علينا وانّا من لقاءهم أزور

وقال علي عليه السلام: حيفاً بالحاء والياء أي ظلماً.
قال الفراء: الفرق بين الجنف والحيف: أن الجنف عدول عن الشيء والحيف: حمل الشّيء حتّى ينتقصه وعلى الرّجل حتّى ينتقص حقّه.
يقال: فلان يتحوف ماله أي ينتقصه منّي حافاته.
وقال المفسّرون: الجنف: الخطأ، والأثمّ: العمد، واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال قوم: تأويلها من حضر مريضاً وهو يوصّي فخاف أن (يحيف) في وصيته فيفعل ماليس له أو تعمد جوراً فيها فيأمر بماليس له، فلا حرج على من حضره أن يصلح بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيّته، وينهاه عن الجنف فينظر للموصي وللورثة، وهذا قول مجاهد: هذا ممّن يحضر الرّجل وهو يموت. فإذا أسرف أمره بالعدل وإذا قصرّ قال: أفعل كذا أعطِ فلاناً كذلك.
وقال آخرون: هو إنّه إذا أخطأ الميت وصيّته أو خاف فيها متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمر المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصي لهم، ويردّ الوصيّة إلى العدل والحق، وهذا معنى قول ابن عبّاس وقتادة وإبراهيم والرّبيع.
وروى ابن جريج عن عطاء قال: هو أن يعطي عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض مما سيرثونه بعد موته. فلا إثمّ على من أصلح بين الورثة.
طاوس: [الحيف] وهو أن يوصي لبني ابنه يريد ابنه أو ولد أبنته يريد ابنته، ويوصي لزوج ابنته ويريد بذلك ابنته، فلا حرج على من أصلح بين الورثة.
السّدي وابن زيد: هو في الوصيّة للأباء والأقربين بالأثرة يميل إلى بعضهم ويحيف لبعضهم على بعض في الوصيّة. فإنّ أعظم الأجر أن لاينفذها، ولكن يصلح مابينهم على مايرى إنّه الحق فينقص بعضاً ويزيد بعضاً.
قال ابن زيد: فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمره الله، وعجز الوصي أن يصلح فيوزع الله ذلك منه بفرض الفرائض لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنّ الله تعالى لم يوص بملك مقرب ولا نبي مرسل حتّى تولّى قسم مواريثكم" .
وقال { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } ولم يجر للورثة ولا للمختلفين في الوصيّة ذكر لأنّ سياق الآية وما تقدّم من ذكر الوصيّة يدلّ عليه.
قال الكلبي: كان الأولياء والأوصياء يمضون وصيّة الميت بعد نزول الآية { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } الآية وإن استغرق المال كلّه ويبقى الورثة بغير شيء، ثمَّ نسختها هذه الآية { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } الآية.
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه:
"قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فمرضت مرضاً أشرفت على الموت. فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يارسول الله إنّ لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ بنت لي أُفأُوصي بثلثي مالي؟
قال: لا.
قلتُ: فبشطر مالي؟
قال: لا.
قلت: بثلث مالي؟
قال: نعم الثلث والثلث كثير إنك ياسعد أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون النّاس"
.
وقال مسلم بن صبيح: أوصى جار لمسروق فدعا مسروقاً ليشهده فوجده قد بذر وأكثر.
فقال: لا أشهد إنّ الله عزّ وجلّ قسم بينكم فأحسن القسمة فمن يرغب برأيه عن أمر الله فقد ضلّ، أوصِ لقرابتك الذين لا يرثون ودع المال على قسم الله.
وعن أبي أُمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من حاف في وصيّته أُلقي في اللوى واللوى واد في جهنّم" .
شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيّته فيختم له بشر عمله فيدخل النّار، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الشّر سبعين سنة. فإذا أوصى لم يحف في وصيته فيختم له بخير عمله. فيدخل الجنّة" . ثمّ قال أبو هريرة: أقرأوا إن شئتم { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.