خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
٩٤
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ
٩٥
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٩٦
قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٩٧
مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
٩٨
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ
٩٩
-البقرة

الكشف والبيان

{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ } الآية
قال المفسّرون: سبب نزول هذه الآية: إنّ اليهود أدعوا دعاوى باطلة، حكاها الله تعالى عنهم في كتابه كقوله تعالى
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة: 80].
وقوله:
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111].
وقوله:
{ { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] فكذبهم الله تعالى، وألزمهم الحجة. فقال: قل يا محمّد إن كانت لكم الدّار الآخرة عند الله.
{ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ } خاصّة؛ لقوله تعالى
{ { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } [الأنعام: 139]، قوله { { خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الأعراف: 32]، قوله { { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب: 50] أي خاصّة من دون النّاس.
{ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } أي فأريدو وحَلّوه لأنّ من علم أنّ الجنّة مآبه حنَّ إليها ولا سبيل إلى دخولها إلاّ بعد الموت فاستعجلوه بالتمني.
{ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم محقين في دعواكم، وقيل في قوله تعالى { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } أيّ أدعوا بالموت على الفرقة الكاذبة.
روى ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
"لو تمنّوا الموت لغصّ كل إنسان منهم بريقه، وما بقى على وجه الأرض يهودي إلاّ مات" .
فقال الله تعالى { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } لعلمهم إنّهم في دعواهم كاذبون.
{ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } يعني اليهود. هذا من أعجاز القرآن لأنّهُ تحداهم ثمّ أخبر أنّهم لا يفعلون بعد أن قال لهم هذه المقالة فكان على ما أخبر.
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود { أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } وفي مصحف أبُيّ على الحياة.
{ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } قيل إنّه متصل بالكلام الأوّل.
معناه وأحرص من الذين اشركوا. قال الفراء: وهذا كما يُقال هو أسخى النّاس ومن حاتم: أي وأسخى من حاتم.
وقيل: هو ابتداء وتمام الكلام عند قوله: على حياتهم ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر (ليودّ) اسماً تقديره: ومن الذين اشركوا من { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } كقول ذو الرّمة:

فظلوا ومنهم دمعهُ سابق لهوآخر يذري دمعة العين بالهمل

أراد ومنهم من دمعه سابق، وأراد بالذين أشركوا المجوس.
{ يَوَدُّ } يريد ويتمنى.
{ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } تقديره تعمير ألف.
{ أَلْفَ سَنَةٍ } قال المفسّرون: هو تحيّة المجوس فيما بينهم عشر ألف سنة وكلمة ألف نيروز ومهرجان.
قال الله تعالى: { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } من النّار.
{ أَن يُعَمَّرَ } أي تعميره: زحزحته فزحزح: أي بعدّته فتباعد يكون لازماً ومتعدياً. قال ذو الرُّمة في المتعدي:

يا قابض الرّوح من نفسي إذا احتضرتوغافر الذّنب زحزحني عن النّار

وقال الراجز، فى اللازم: خليلي ما بال الدجى لا يزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتّوضح. { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الآية
قال ابن عبّاس:
"إن حبراً من أحبار اليهود يُقال له عبد الله بن صوريا كان قد حاج النبيّ صلى الله عليه وسلم وسأله عن أشياء. فلما اتجهت الحُجّة عليه قال: أيّ ملك يأتيك من السّماء؟
قال: جبرئيل ولم يُبعث الكتاب لأنبياء قط إلاّ وهو وليه. قال: ذلك عدُونا من الملائكة ولو كان ميكائيل مكانه لآمنّا بك؛ لأنّ جبرئيل ينزل بالعذاب والقتال والشقوة وإنّه عادانا مراراً كثيرة، وكان أشدُ ذلك علينا أنّ الله تعالى أنزله على نبينا عليه السلام إنّ بيت المقدس سيُخرب على يد رجل يقال له: بخت نصّر، وأخبرنا بالحين الذي يُخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصّر ليقتله فانطلق يطلبه حتّى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً ليست له قوة. فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرئيل عليه السلام وقال لصاحبنا: إنّ كان ربكم هو الذي أذن في هلاككم فلن تسلّط عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله. فصدقه صاحبنا ورجع عليه السلام: فكبر بخت نصّر وقوي وغزانا وخرّب بيت المقدّس؛ فلهذا نتخذه عدواً. فأنزل الله تعالى هذه الآية"
.
قال مقاتل: قالت اليهود ان جبرئيل عدونا أمرنا أن تجعل النبوّة فينا فجلعها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قتادة وعكرمة والسّدي:
"فكان لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أرض بأعلى المدينة وممرها على مدراس اليهود، وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم ويكلمهم. فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمّد إحب إلينا منك. إنّهم يمرّون هنا فيأذونا وأنت لا تؤذينا وأنّا لنطمع فيك فقال عمر: والله ما أحبكم لحبكم، ولا أسألكم لأنّي شاك في ديني، وإنّما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم. فقالوا: من نصّب محمّد من الملائكة؟
قال: جبريل. فقالوا: ذلك عدوّنا يطلع محمّد على سرنا، وهو صاحب عذاب وخسف وسنة وشدة، وإنّ ميكائيل جاء بالخصب والسّلم. فقال لهم عمر: أتعرفون جبرئيل وتنكرون محمّداً.. قالوا: نعم.
قال: فاخبروني عن منزلة جبرئيل وميكائيل من الله عزّ وجلّ؟
قالوا: جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدّو لجبرئيل فقال عمر: وإنّي أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبرئيل فهو عدوّا لميكائيل ومن كان عدواً لميكائيل فهو عدوّ لجبرئيل، ومن كان عدواً لهما فإنّ الله عدوّ له، ثمّ رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: لقد وافقك ربّك يا عمر فقال عمر: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر"
.
قال الله تعالى تصديقاً لعمر (رضي الله عنه) { قل من كان عدوّاً لجبرئيل } وفي جبرئيل سبع لغات:
(جبرئيل) مهموز، مشبع مفتوح الجيم والراء، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر وخلف واختيار أبي عبيد، وقال: رأيت في مصحف عثمان الذي يُقال له: الإمام بالياء في جبريل وميكايل (والياء قبل) الياء تدلّ على الهمزة، وقال الشاعر:

شهدنا فما يُلقى لنا من كتيبةمدى الدّهر إلاّ جبرئيل امامها

(وجبرائيل) ممدود، مهموز، مشبع، على وزن جبراعيل، وهي قراءة ابن عبّاس وعلقمة وابن وثاب.
(وجبرائل) ممدود، مهموز، مختلس على وزن جبراعل وهي قراءة طلحة بن مصرف.
(وجبرئل) مهموز، مقصور مختلس على وزن جبرعل، وهي قراءة يحيى بن آدم.
(وجبرالّ) مهموز، مقصور، مشدّد اللام من غير ياء، وهي قراءة يحيى بن يعمر، وعيسى ابن عمر، والأعمش.
(وجبريل) بفتح الجيم وكسر الرّاء من غير همز، وهي قراءة ابن كثير وأنشد لحسان:

وجبريل أمين الله فيناوروح القدس ليس به خفاءُ

(وجبريل) بكسر الجيم والراء من غير همزة وهي قراءة علي، وأبي عبد الرّحمن، وأبي رجاء، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومعظم أهل البصرة والمدينة، واختيار أبي حاتم، وقدروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك.
وعن شبل عن عبد الله بن كثير قال:
"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقرأ جبريل بكسر الجيم والراء من غير همز. فلا أقرأها إلاّ هكذا" .
قال الثعلبي: والصّحيح المشهور عن كثير ما تقدّم والله أعلم.
أما التفسير فقال العلماء: جبر هو العبد بالسريانية وأيل هو الله عزّ وجلّ يدلّ عليه ما روى إسماعيل عن رجاء عن معاوية برفعه قال: إنّما جبرئيل وميكائيل كقولك عبد الله وعبد الرّحمن، وقيل جبرئيل مأخوذ من جبروت الله، وميكائيل من ملكوت الله.
{ فَإِنَّهُ } يعني جبرئيل. { نَزَّلَهُ } يعني القرآن كتابه عن غير مذكور كقوله
{ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45] يعني الأرض، وقوله { { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] يعني الشمس.
{ عَلَىٰ قَلْبِكَ } يا محمد { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بأمر الله.
{ مُصَدِّقاً } موافقاً.
{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما قبله من الكتب.
{ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } أخرجهما بالذّكر من جملة الملائكة ومواضعهم على جهة التفضيل والتخصيص، كقوله تعالى
{ { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [الرحمن: 68] وميكائيل أربع لغات:
ممدود، مهموز، مشبع على وزن ميكاعيل، وهي قراءة أهل مكّة والكوفة والشّام.
{ وَمِيكَالَ } ممدود، مهموز مختلس مثل ميكاعل، وهي قراءة أهل المدينة.
و(ميكيل) مهموز مقصور على وزن ميكعل، وهي قراءة الأعمش وابن محيصن.
(وميكال) على وزن مفعال وهي قراءة أهل البصرة. قال الشاعر:

ويوم بدر لقيناكم لنا مددفيه مع النّصر جبريل وميكال

وقال جرير:

عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّدوبجبرئيل وكذّبوا ميكالا

ومعنى الآية من كان عدواً لأحد هؤلاء فإن الله عدو له والواو فيه بمعنى أو. كقوله تعالى { { وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ } الآية [النساء: 136] لأن الكافر بالواحد كافر بالكل. فقال ابن صوريا: يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها. فأنزل الله عزّ وجلّ: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
{ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ } الحادون عن أمر الله.