{ أَوَلَمْ يَرَ } قرأه العامّة بالواو، وقر ابن كثير ألم وكذلك هو في مصاحفهم. «ير» يعلم { ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا }.
قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة: يعني كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله سبحانه بينهما بالهواء.
قال كعب: خلق الله سبحانه السماوات والأرضين بعضها على بعض ثمّ خلق ريحاً توسّطتها ففتحها بها.
وقال مجاهد وأبو صالح والسدُّي: كانت السماوات مرتقة طبقة واحدة، ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرضون كانت مرتقة طبقاً واحداً ففتقها فجعلها سبع أرضين.
عكرمة وعطية وابن زيد: كانت السماء رتقاً لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، نظيره قوله سبحانه { { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ * وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } [الطارق: 11ـ12] وأصل الرتق السدّ ومنه قيل للمرأة التي فرجها ملتحم رتقاً، وأصل الفتق الفتح، وإنّما وحّد الرتق وهو من نعت السموات والأرض لأنّه مصدر، وضع موضع الاسم مثل الزور والصوم والفطر والعدل ونحوها.
{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } يعني أنّ كلّ شيء حىّ فإنّه خُلق من الماء، نظيره قوله سبحانه { { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [النور: 45].
{ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا } أي في الرواسي { فِجَاجاً } طرقاً ومسالك واحدها فج ثمَّ، فسّر فقال { سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } من أن تسقط، دليله قوله سبحانه { { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [الحج: 65] وقيل: محفوظاً من الشياطين، دليله قوله سبحانه { { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [الحجر: 17].
{ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } فلا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها يعني الكفار.
{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يجرون ويسيرون، والفلك مدار النجوم الذي يضمّها، ومنه فلكة المغزل.
قال مجاهد: كهيئة حديدة الرّحا، الضحّاك: فلكها: مجراها وسرعة سيرها.
وقال آخرون: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقال بعضهم: الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكلّ كوكب يجري في السّماء الذي قدّر فيه وهو بمعنى قول قتادة.
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } دوام البقاء في الدنيا { أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } أي أفهم الخالدون؟
كقول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترعفقلت وأنكرت الوجوه هُمُ هُمُ
أي أهمُ؟ نزلت هذه الآية حين قالوا: نتربّص بمحمد ريب المنون.
{ كُلُّ نَفْسٍ } منفوسة { ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم } نختبركم { بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبّون، وكيف صبركم فيما تكرهون.
{ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَإِذَا رَآكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَتَّخِذُونَكَ } ما يتّخذونك { إِلاَّ هُزُواً } سخرّياً ويقول بعضهم لبعض { أَهَـٰذَا ٱلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } بسوء ويعيبها، قال عنترة:
لا تذكري فرسي وما أطعمتهفيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري.
{ خُلِقَ ٱلإنْسَانُ } يعني آدم، قرأ العامّة: بضم الخاء وكسر اللام على غير تسمية الفاعل، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام يعني خلق الله الانسان { مِنْ عَجَلٍ } اختلفوا فيه فقال بعضهم: يعني أنّ بنيته وخلقته من العجلة وعليها طُبع، نظيره قوله { { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11].
قال سعيد بن جبير والسدي: لمّا دخل الروح في عيني آدم نظر إلى ثمار الجنّة، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }.
وقال آخرون: معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إيّاه، وقالوا: خلقه في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها.
قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق، فلمّا أحيا الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
وقال بعضهم: هذا من المقلوب مجازه: خُلق العجل من الإنسان كقول العرب: "عرضت الناقة على الحوض" يريدون: عرضت الحوض على الناقة وكقولهم: إذا طعلت الشمس الشعرى، واستوى العود على الحربا أي استوى الحربا على العود. وقال ابن مقبل:
حسرتُ كفّي عن السربالِ آخذهفرداً يجرّ على أيدي المفدينا
يريد حسرت السربال عن كفّي، ونحوها كثير.
وقال أبو عبيد: وكثير من أهل المعاني يقولون: العجل الطين بلغة حمير، وانشدوا:
النبع تنبت بين الصخر ضاحيةوالنخل ينبت بين الماء والعجل
أي الطين.
{ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } بالعذاب وسؤال الآيات { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } الذي تعدنا من العذاب، وقيل: القيامة، وتقديره الموعود { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
قال الله سبحانه { لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ } يمنعون { عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } السياط { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } وفي الآية اختصار يعني لمّا أقاموا على كفرهم ولم يتوبوا.
{ بَلْ تَأْتِيهِم } يعني الساعة { بَغْتَةً } فجأةً { فَتَبْهَتُهُمْ } قال ابن عباس: تفجأهم، وقال الفرّاء: تحيّرهم. { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } يحفظكم ويحرسكم { بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } إذا انزل بكم عذابه، ومعنى الآية: من أمر الرَّحْمن وعذابه.
ثم قال سبحانه { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ } كتاب ربّهم { مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ } الميم صلة فيه وفي أمثاله { آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } فكيف ينصرون عابديهم.
{ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } قال ابن عباس: يمنعون، عطية عنه: يُجارون، يقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير عنه.
مجاهد: ينصرون ويحفظون، قتادة: لا يصحبون من الله بخير.
{ بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ } الكفّار { وَآبَآءَهُمْ } في الدنيا { حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين.
{ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } أم نحن { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ } بالقرآن { وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ } قرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي بضم الياء وفتح الميم، الضم رفع بمعنى أنّه لا يفعل بهم ذلك على مذهب ما لم يبين فاعله.
وقرأ ابن عامر «تُسمع» بتاء مضمومة وكسر الميم والصُمَّ نصباً، جعل الخطاب للنبي (عليه السلام)، وقرأ الآخرون: «يسمع» بياء مفتوحة وفتح الميم الصمُّ رفع على أنّ الفعل لهم { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } يخوّفون ويحذّرون.
{ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ } أصابتهم { نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ } قال ابن عباس: طرف، مقاتل وقتادة: عقوبة، ابن كيسان: قليل، ابن جريج: نصيب، من قولهم: نفح فلان لفلان إذا أعطاه قسماً وحظّاً منه، بعضهم: ضربة، من قول العرب: نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها. قال الشاعر:
وعمرة من سروات النساءتنفح بالمسك أردانها
{ لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ } العذاب وإنّما وحدّ القسط وهو جمع الموازين لأنّه في مذهب عدل ورضىً.
قال مجاهد: هذا مَثَل، وإنّما أراد بالميزان العدل.
{ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } لا ينقص من حسناته ولا يزاد على سيّئاته.
يروى أنّ داود (عليه السلام) سأل ربّه أن يريه الميزان فأراه، فلمّا رآه غشي عليه ثم أفاق، فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
فان قيل: كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه { { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105]؟ فالجواب: إن المعنى فيه: لا نقوّمها ولا تستقيم على الحقّ، [من ناقصه سائله] لأنها باطلة.
{ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } رفع أهل المدينة المثقال بمعنى: وان وقع، وحينئذ لا خبر له ونصبها الباقون على معنى: وإن كان ذلك الشيء مثقال، ومثله في سورة لقمان { أَتَيْنَا بِهَا } أحضرناها، وقرأ مجاهد: آتينا بالمدّ أي جازينا بها.
{ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ } يعني الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة.
وقال ابن زيد: النصر على الأعداء، دليله قوله { { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ } [الأنفال: 41] يعني يوم بدر، وهذا القول أشبه بظاهر الآية لدخول الواو في الضياء والذكر للمتّقين، وعلى هذا التأويل تكون الواو مقحمة زائدة كقوله سبحانه وتعالى { { بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً } [الصافات: 6-7].
ويروى أنّ عكرمة كان يقول في هذه الآية: معناها: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء، ويقول: انقلوا هذه الواو إلى قوله سبحانه وتعالى { { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } [غافر: 7].
{ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } أي يخافونه ولم يروه { وَهُمْ مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } يعني القرآن { أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } جاحدون.