خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً
١١
إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
١٢
وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً
١٣
لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً
١٤
قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً
١٥
لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً
١٦
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ
١٧
قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً
١٨
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
١٩
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
-الفرقان

الكشف والبيان

{ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً } أي غلياناً وفوراناً كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب { وَزَفِيرًا } ومعنى قوله: سمعوا لها تغيّظاً أي صوت التغيّظ من التلهّب والتوقّد، وقال قطرب: التغيظ لا يُسمع وإنّما المعنى: رأوا لها تغيّظاً وسمعوا لها زفيراً. قال الشاعر:

ورأيت زوجك في الوغىمتقلّداً سيفاً ورمحا

أي حاملاً رمحاً.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال: حدّثني عمي أبو بكر قال: حدّثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الورّاق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَن كذب عليّ متعمّداً فليتبّوأ بين عينَي جهنم مقعداً فقال: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم ألم تسمع إلى قول الله سبحانه { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } " .
{ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزجّ في الرمح.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حاتم قال: قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن قول الله سبحانه { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } { مُّقَرَّنِينَ } قال:
"والذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، مقرّنين مصفّدين، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال" . ومنه قيل للحبل قَرنٌ، وقيل: مع الشياطين في السلاسل والأغلال.
{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } ويلاً عن ابن عباس، هلاكاً عن الضحّاك.
روى حمّاد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أوّل من يُكسى حُلّة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوره وهم ينادون ياثبورهم حتى يُصَفّوا على النار فيقال لهم { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً * قُلْ أَذٰلِكَ } الذي ذكرت من صفة النار وأهلها { خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } وذلك أنَّ المؤمنين سألوا ربّهم ذلك في الدنيا حين قالوا { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } [آل عمران: 194] فقال الله سبحانه كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد وعداً وعدهم على طاعته إيّاه في الدنيا ومسألتهم إيّاه ذلك" .
وقال بعض أهل العربية: يعني وعداً واجباً وذلك أنّ المسؤول واجب وإن لم يُسئل كالَّذين قال: ونظير ذلك قول: العرب لأُعطينّك ألفاً وعداً مسؤولاً بمعنى أنه واجب لك فتسأله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حنش المقري قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا جعفر بن مسافر قال: حدّثنا يحيى بن حسان قال: حدّثنا رشد بن عمرو بن الحرث، عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً }.
قال: الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم
{ { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ } [غافر: 8].
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص، والباقون بالنون { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } من الملائكة والإنس والجنّ عن مجاهد، وقال عكرمة والضحّاك: يعني الأصنام. { فَيَقُولُ } بالنون ابن عامر، غيره: بالياء، لهؤلاء المعبودين من دون الله { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر: أن نُتَّخذ بضم النون وفتح الخاء.
قال أبو عبيد: هذا لا يجوز لأنَّ الله سبحانه ذكر (مِنْ) مرّتين، ولو كان كما قالوا لقال: أن نتّخذ من دونك أولياء. وقال غيرهُ: (مِنْ) الثاني صِلة.
{ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ } في الدنيا بالصحة والنعمة { حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ } أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه، وقيل: الرسول، وقيل: الإسلام، وقيل: التوحيد، وقيل: ذكر الله سبحانه وتعالى.
{ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان، وقال الحسن وابن زيد: البور: الذي ليس فيه من الخير شيء، قال أبو عبيد: وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة، وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر. قال ابن الزبعرى:

يا رسول المليك إنّ لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بُور

وقيل: هو جمع البائر، ويقال: أصبحت منازلهم بوراً أي خالية لا شيء فيها، فيقول الله سبحانه لهم عند تبرّي المعبودين منهم { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } أنّهم كانوا آلهة { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } قرأه العامة بالياء يعني الآلهة، وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين { صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم.
وقال يونس: الصرف: الحيلة ومنه قول العرب: إنه ليتصرف أي يحتال.
وقال الأصمعي: الصرف: التوبة والعدل: الفدية.
{ وَمَن يَظْلِم } أي يشرك { مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً * وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ } يا محمد { مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ } قال أهل المعاني: إلاّ قيل أنّهم { لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } دليله قوله سبحانه
{ { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [فصلت: 43] وقيل: معناه إلاّ من أنّهم، وهذا جواب لقول المشركين { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 7].
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } فالمريض فتنة للصحيح، والمبتلى فتنة للمعافى، والفقير فتنة للغني، فيقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيّاً مثل فلان، وقال ابن عباس: إنّي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أُعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.
أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جمعان قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ويل للعالم من الجاهل، ويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } " .
{ أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيباً وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا: أنُسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين { أَتَصْبِرُونَ } يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر، وكان ربك بصيراً بمن يصبر ويجزع، وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن.