خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
٢٩
فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٠
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ
٣١
ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٣٢
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
٣٣
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
٣٤
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ
٣٥
-القصص

الكشف والبيان

{ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } أي أتمه وفرغ منه.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان عن عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدّثنا موسى بن عبد العزيز، قال: حدّثنا الحكم بن أبان، قال: حدّثني عكرمة، قال: قال ابن عباس:
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أبعدهما وأطيبهما" .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، قال: حدّثنا محمد بن عبد الجبار الهمذاني، قال: حدّثنا يحيى بن بكير قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن زيد، عن علي بن رباح، عن عتبة بن التيب وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسكن الشام،ومات في زمن عبد الملك قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرهما وأوفاهما" .
وروى محمد بن إسحاق، عن حكم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي يهودي بالكوفة وأنا أتجهز للحج: إنّي أراك رجلا تتبع العلم، أخبرني أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب يعني ابن عباس فسأسأله عن ذلك، فلمّا قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنّ النبي إذا وعد لم يخلف، قال سعيد: فقدمت العراق، فلقيت اليهودي فأخبرته، فقال: صدق، ما أنزل على موسى هذا والله العالم. وقال وهب: أنكحه الكبرى، وقد روي أنّ النبي (عليه السلام) قال: "تزوج صغراهما وقضى أوفاهما" فإن صح هذا الخبر فلا معدل عنه.
وقال مجاهد: لما قضى موسى الأجل ومكث بعد ذلك عند صهره عشراً أخرى، فأقام عنده عشرين سنة، ثم إنّه استأذنه في العودة إلى مصر لزيارة والدته وأخيه، فأذن له، فسار بأهله وماله، وكانت أيام الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته في شهرها لا يدري أليلا تضع أم نهاراً، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق، فقدح زنداً فلم تور (المقدحة شيئاً)، فآنس من جانب الطور ناراً { قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ } قطعة وشعلة { مِّنَ ٱلنَّارِ } وفيها ثلاث لغات: فتح الجيم وهي قراءة عاصم، وضمها وهي قراءة حمزة، وكسرها وهي قراءة الباقين، وقال قتادة ومقاتل: الجذوة: العود الذي قد احترق بعضه، وجمعها جُذيّ، قال ابن مقبل: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جزل الجُذي غير خوار ولا دعر { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئون وتستحمّون بها من البرد { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ } جانب { ٱلْوَادِى ٱلأَيْمَنِ } عن يمين موسى { فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } وقرأ أشهب العقيلي { فِي ٱلْبُقْعَةِ } بفتح الباء { مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } أي من ناحية الشجرة { أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } قال عبد الله بن مسعود: كانت الشجرة سمرة خضراء ترق، قتادة، عوسجة، وهب: علّيق.
{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تتحرك { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } وهي الحيّة الصغيرة من سرعة حركته { وَلَّىٰ مُدْبِراً } هارباً منها { وَلَمْ يُعَقِّبْ } ولم يرجع، فنودي { يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ (*) ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } فخرجت كأنّها مصباح { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } قرأ حفص بفتح الراء وجزم (الهاء)، وقرأ أهل الكوفة والشام بضمّ (الراء) وجزم (الهاء)، غيرهم بفتح (الراء) و (الهاء)، دليلهم قوله سبحانه:
{ { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء: 90] وكلّها لغات بمعنى الخوف والفَرَق.
ومعنى الآية إذا هالك أمر يدك وما ترى من شعاعها، فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، وقال بعضهم: أمره الله سبحانه وتعالى أن يضم يده إلى صدره ليذهب الله عز وجل ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقيل: معناه سكّنْ روعك واخفض عليك جأشك لأنّ من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه، وضم الجناح هو السكون، ومثله قوله سبحانه { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } [الإسراء: 24] يريد الرفق، وقوله سبحانه: { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 215] أي ارفق بهم وألن جانبك لهم، وقال الفرّاء: أراد بالجناح عصاه.
وقال بعض أهل المعاني: الرهب، الكُم بلغة حمير وبني حنيفة، وحُكي عن الأصمعي أنّه سمع بعض الأعراب يقول لآخر: عطني ما في رهبك، قال: فسألته عن الرهب؟ فقال: الكُم، ومعناه على هذا التأويل: اضمم إليك يدك وأخرجها من الكُم؛ لأنّه تناول العصا ويده في كُمّه.
{ فَذَانِكَ } قراءة العامة بتخفيف (النون)، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد (النون) وهي لغة قريش، وفي وجهها أربعة أقوال: قيل: شدّد النون عوضاً من (الألف) الساقطة ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأنّ أصله { فَذَانِكَ } فحذفت الألف الأُولى لالتقاء الساكنين.
وقيل: التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك. وقيل: شُدّدت فرقاً بينها وبين التي تسقط للإضافة؛ لأنّ ذان لا تضاف. وقيل: للفرق بين تثنية الاسم المتمكن وبينها. قال أبو عبيد: وكان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد دون كلّ تثنية في القرآن،وأحسبه فعل ذلك لقلة الحروف في الاسم، فقرأه بالتثقيل.
ومعنى الآية { فَذَانِكَ } يعني العصا واليد البيضاء { بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ (*) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (*) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } وأحسن بياناً، وإنّما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } معيناً، يقال: أردأته أي أعنته، وترك همزه عيسى بن عمر وأهل المدينة طلباً للخفّة { يُصَدِّقُنِي } قرأه العامة بالجزم، ورفعه عاصم وحمزة، وهو اختيار أبو عبيد، فمن جزمه فعلى جواب الدعاء، ومن رفعه فعلى الحال، أي ردءاً مصدقاً حاله التصديق كقوله سبحانه:
{ { رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ } [المائدة: 114] أي كائنة حال صرف إلى الاستقبال.
{ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ } أن نقويك ونعينك { بِأَخِيكَ } وكان هارون يومئذ بمصر { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } قوة وحجة وبرهاناً { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ }.