{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } الآية.
قال أبو روق والكلبي: كان هذا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا على ملة إبراهيم.
فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحّله فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرّمه فإنّه كان محرّماً على نوح وإبراهيم هاجراً حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم: { كُلُّ ٱلطَّعَامِ } المحلل لكم اليوم { كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ }."
{ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ } وهو يعقوب { عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ }.
واختلف المفسّرون في ذلك الطعام، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وأبو مجلز: هي العروق وكان [سبب] ذلك أنّ يعقوب (عليه السلام) اشتكى عرق النساء،
وكان أصل وجعه ذلك، ما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك أنّ يعقوب بن إسحاق كان قد نذر إن وهب الله له اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له: يا يعقوب إنّك رجلٌ قوي، هل لك في الصراع؟
فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، ثم غمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك، ثم قال: أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنّك قد كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولدك، وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجاً، فلمّا قدمها يعقوب أراد ذبح ابنه ونسي قول الملك، فأتاه الملك فقال: أنا غمزتك هذه الغمزة للمَخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب (عليه السلام) من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيص وكان رجلا بطّيشاً قوياً، فلقيه ملك فظنّ [يعقوب] أنّه لصّ فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النساء ولقي من ذلك بلاء شديداً وكان لا ينام بالليل من الوجع [ويبيت] وله زقاء أي صياح، فحلف يعقوب (عليه السلام) لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق، فحرّمها على نفسه فجعل بنوه يبتغون العروق يخرجونها من اللحم،
وقال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي: كان ذلك لحمان الإبل وألبانها.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس "أن عصابة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه عليه، فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحبّ الطعام والشراب إلى نفسه، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها" فقالوا: اللهم نعم.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أصاب يعقوب عرق النساء ووصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل، فقالت اليهود: إنّا حرّمنا على أنفسنا لحوم الإبل ؛ لأنّ يعقوب حرّمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الجزور تعبداً لله عز وجل فسأل ربّه عز وجل أن يجيز له ذلك، فحرّمه الله على ولده، وقال عكرمة: حرّم إسرائيل على نفسه زائدة الكبد والكليتين والشحم إلاّ ما على الظهور، وروى ليث عن مجاهد قال: حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الأنعام ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرّم على إسرائيل بعد نزول التوراة، وقال السدي: إنّ الله لما أنزل التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمونها قبل نزولها اقتداءً بأبيهم يعقوب (عليه السلام)، وقال عطية: إنّما كان ذلك حراماً عليهم لتحريم إسرائيل ذلك عليهم وذلك أنّ إسرائيل قال حين أصابه عرق النساء: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرّماً عليهم في التوراة.
وقال الكلبي: لم يحرّمه الله عليهم في التوراة وإنّما حرّم عليهم بعد التوراة لظلمهم وكفرهم، وكان بنو إسرائيل كلما أصابوا ذنباً عظيماً حرّم الله عليهم طعاماً طيباً، أو صبّ عليهم رجزاً وهو الموت، وذلك قوله تعالى: { { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء: 160]، وقوله: { { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } إلى قوله { { وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام: 146].
وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك علينا حراماً، ولا حرّم الله عليهم في التوراة وإنّما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتّباعاً لأبيهم، وأضافوا تحريمه إلى الله فكذّبهم الله تعالى فقال: قل لهم يا محمد { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا } حتى يتبين أنّه كما يقول لا كما قلتم، فلم يأتوا، فقال الله { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [آل عمران: 94].
وروى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النساء يأخذ إليّة كبش عربي لا صغير ولا كبير فيقطع صغاراً فيخرج أهالته فيخرج على ثلاث قِسَم، ويأكل كل يوم على ريق النفس، قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة فشفاهم الله" .
وروى شعبة أنّه رأى شيخاً في زمن الحجاج بن يوسف يقول لعرق النساء: أقسم عليك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينّك بنار أو لألحقنك بموسى، قال شعبة: فإنّه يقول ذلك ويمسح على ذلك الموضع فيبرأ بإذن الله.
{ قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِِ } الآية.
قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقال اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنّها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } وقرأ ابن السميقع: وضع بفتح الواو والضاد يعني وضعه الله { لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وليس ذلك في بيت المقدس { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وليس ذلك في بيت المقدس { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } وليس ذلك في بيت المقدس.
واختلف العلماء في تأويل قوله { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ } فقال بعضهم: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عندما خلق الله السماء والأرض فخلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الأرض فدحيت الأرض من تحتها، هذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد وقتادة والسدي.
وقال بعضهم: هو أوّل بيت وضع: بُني في الأرض، يروى أنّ علي بن الحسين سُئل عن بدء الطوفان، فقال: إنّ الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور الذي ذكره الله، وقال للملائكة: طوفوا به ودعوا العرش، فطافت الملائكة به وتركوا العرش، وكان أهون عليهم، ثم أمر الله الملائكة الذين يسكنون في الأرض أن يبنوا له في الأرض بيتاً على مثاله وقدره، فبنوا، واسمه الضراح، وأمر من في الأرض من خلقه أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وقيل: هو أول بيت بناه آدم في الأرض، قاله ابن عباس.
وقال الضحاك: إنّ أول بيت وضع فيه البركة وأحسن من الفردوس الأعلى.
وروى سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي (رضي الله عنه) فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت كان في الأرض؟ قال: لا، فأين كان قوم نوح وعاد وثمود، ولكنه أول بيت مبارك وهدىً وضع للناس.
وقيل: إنّ أول بيت وضع للناس يُحج إليه لله، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً، وقيل: هو أول بيت جُعل قبلة للناس.
وقال الحسن والكلبي والفراء: معناه: إن أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه، يدل عليه قوله: { { أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } [يونس: 87] يعني مساجدهم واجعلوا بيوتكم قبلة، وقوله: { { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } [النور: 36] يعني المساجد.
إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه سُئل عن أول مسجد وضع للناس، قال: المسجد الحرام ثم بيت المقدس، وسُئل: كم بينهما قال: أربعون عاماً حيث ما أدركتك الصلاة فصلّ فثم سُجد للذي ببكة" .
قال الضحاك والمدرج: هي مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، فتقول: سبد رأسه وسمد، واغبطت عليه الحمى واغمطت، وضربة لازم ولازب.
وقال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة: المسجد والبيت، ومكة: الحرم كله.
وقال الآخرون: مكة اسم البلد كله، وبكة موضع البيت والمطاف، وسمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها: أي يزدحمون، يُبكي بعضهم بعضاً، ويصلي بعضهم بين يدي بعض، ويمر بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلاّ بمكة.
قال الراجز:
إذا الشريب أخذته أكهفخلّه حتى يبك بكه
قال عطاء: مرّت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت فدفعها، فقال أبو جعفر الباقر: إنّها بكة يبكي بعضهم بعضاً.
وقال عبد الرحمن بن الزبير: سميت بكة لأنّها تُبك أعناق الجبابرة أي تدقها، فلم يقصدها جبار يطلبها إلاّ وقصمه الله، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مكتَ الفصيل ضرع أُمّه وامتكّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، قال الشاعر:
مكّتْ فلم تُبقِ في أجوافها دررا
عن الحسين عن ابن عباس قال: ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة تُرفع فيها الحسنات بكل واحدة مائة ألف ما يرفع بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض يُكتب لمن صلى فيها ركعة واحدة بمائة ألف ركعة ما يُكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يُكتب لمن تصدّق فيها بدرهم] واحد يكتب له مائة ألف درهم ما يُكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يُكتب] لمن فيها شراب الأحبار ومصلى الأخيار إلاّ بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ما مس شيئاً أحد فيها إلاّ كانت تكفير الخطايا إلاّ بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا فيها آمن له الملائكة فيقولون: آمين آمين ليس إلاّ بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة [........] إلاّ بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلاّ بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ورد إليها جميع النبيين [ما قد] صدر إلى مكة، وما أعلم بلدة يحشر فيها من الأنبياء والأبرار والفقهاء والعباد من الرجال والنساء ما يحشرون من مكة أي يُحشرون وهم آمنون يوم القيامة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كل يوم من روح الجنّة ورائحتها ما ينزل بمكة حرسها الله.
{ مُبَارَكاً }: نصب على الحال { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }: لأنه قبلة المؤمنين { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ }: قرأ ابن عباس: آية بينة.
{ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [........]
{ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }.
[حدثنا إبن حميد قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا بن أبي حبيب عن مرثد بن عبدالله المزني عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الضابحى "عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأُولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا،
ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئاً من ذلك].
فأخذتم [بحدّه] في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمْركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، فلمّا انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ، وكان أول مقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة،
فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما، فإنّ أسعد ابن خالتي، ولولا ذاك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني الأشهل، وكلاهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حرسه ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في حائط، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد جاءك والله، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس نكلّمه، قال: فوقف عليهما مشتّماً، فقال: ما جاء بكما إلينا؟
تسفّهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكرهه، قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن.
قال: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في أشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل،
وتطهّر ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهّر ثوبه،
وشهد بشهادة الحق، ثم قام وصلّى ركعتين، ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم،
فلمّا وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلّمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما، فقالا: لا نفعل إلاّ ما أحببت.
وفي الحديث أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ؛ وذلك أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقروك، فقام سعد مغضباً مبادراً للذي ذكره له، فأخذ الحربة منه،
ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيداً إنّما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما مشتّماً ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره، وقد قال لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن تبعك لم يُخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع،
فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته قد كفاك ما تكره، قال سعد: أنصفت،
ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهّر ثوبك وتشهد بشهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين، فقام فاغتسل فطهّر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلمّا رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلمّا وقف عليه قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبةً، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلاّ مسلماً ومسلمة ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسيد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رجال ونساء من المسلمين إلاّ ما كان من بني أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف [وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه] كان فيهم أبو قيس الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا: إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة،
فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية.
قال كعب بن مالك وكان شهد ذلك: فلمّا فرغا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه،
فكنّا نكتم عمّن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، وكلّمناه وقلنا له: يا جابر إنّك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنّك ترغب بك عمّا أنت فيه أن نكون حطباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة وكان تقياً، فبتنا تلك الليلة في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتسلّل مستخفين تسلل القطا، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجّار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع، واجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلاّ أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له فلمّا جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمّون هذا الحي من الأنصار: الخزرج؛ خزرجها وأوسها إنّ محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلاّ الانقطاع لكم واللحوق بكم.
فإن كنتم ترون أنكم وافون له ما دعوتموه إليه و[مانعوه] ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن دعوه فإنّه في عز ومنعة.
قال: فقلنا: سمعاً ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك ولربك ما شئت.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وقال: أبايعكم على أن تمنعوني عمّا تمنعون منه نساءكم.
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فَبَايِعْنَا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة [وإنّا] ورثناها كابراً عن كابر.
قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالا يعني اليهود وإنا قاطعوها،
فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك [الل] أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم وأنتم مني وأنا منكم أُحارب من حاربتم وأُسالم من سالمتم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً كفلاء على قومهم بما فيهم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام، فأخرجوا اثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
قال عاصم بن عمر بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنّكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة؟ وأشرافكم قتل أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون بالعهد له فيما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه، فأول من ضرب على يده البراء بن معرور، ثم تتابع القوم. قال: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا والله زنا العقبة اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نؤمر بذلك،
ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا [ف ] غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا وقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض،
فقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة كأني أُريد أن أُشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟
قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إليّ وقال: والله لتنتعلنّهما، فقال أبو جابر: والله أخفظت الفتى فاردد إليه نعليه. قال: قلت: لا أردهما، قال: والله صلح، والله لئن صدق لأسلبنه.
قال: ثم انصرف أبو جابر إلى المدينة، وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنّ الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها.
فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم الأنصار، فكان ممن هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، ثم عبد الله بن جحش. ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا إلى المدينة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أُذن، فقدم المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورفع عنهم العداوة القديمة، وألّف بينهم، وذلك قوله { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }" يا معشر الأنصار إذ كنتم أعداء قبل الإسلام { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام { فَأَصْبَحْتُمْ }: فصرتم، نظيره قوله في المائدة: { { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الآية: 30] وقوله: { { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [الآية: 31] وفي { حم } السجدة { { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } [فصلت: 23] وفي الكهف: { { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } [الآية: 41].
{ بِنِعْمَتِهِ }: بدينة الإسلام { إِخْوَاناً } في الدين والولاية، نظيره قوله: { { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 41].
وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا،
وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى ههنا وأشار بيده إلى صدره حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" .
أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه."
الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون كرجل واحد.
قال: "المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر" .
{ وَكُنْتُمْ } يا معشر الأوس والخزرج على شفا حفرة من النار. قال الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سجلهْنابتة فوق شفاهاً بقلهْ
ومعنى الآية: كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلاّ أن تموتوا على كفركم، { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } بالإيمان. قال: وبلغنا أنّ أعرابياً سمع ابن عباس وهو يقرأ هذه الآية فقال: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس: خذوه من غير فقيه. { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.