خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
-سبأ

الكشف والبيان

قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ } مجازه وقلنا: يا جبال { أَوِّبِي مَعَهُ }: سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة: هو بلسان الحبشة، وقال بعضهم: هو التفعيل من الإياب، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد، وقال وهب بن منبّه: نوحي معه.
{ وَٱلطَّيْرَ } تساعدك على ذلك، قال: وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم.
ويقال: إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه: "لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها"، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داوُد قال: فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل، فقال داوُد في نفسه: "كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟" فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فركله برجله فانفرج له البحر، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز، فقال له الملك: إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع.
وقال القتيبي: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً.
قال ابن مقبل:

لحقنا بحي أوّبوا السيرَ بعدمادفعنا شعاعَ الشمسِ والطرفُ مجنحُ

كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه، وقيل: سيري معه كيف يشاء: { وَٱلطَّيْرَ } قراءة العامة بالنصب، وله وجهان:
أحدهما بالفعل، مجازه: وسخرنا له الطيرَ، مثل قولك: (أطعمته طعاماً وماء) تريد: وسقيته ماء، والوجه الآخر النداء كقولك: يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت؛ لأنه إنما يُدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته، فنصب، وقيل: مع الطير، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب.
وروي عن يعقوب بالرفع؛ رداً على { الجِبَالُ } أي أوبي معه أنتِ والطير، كقول الشاعر:

ألا يا عمرو والضحاك سيرافقد جاوزتما خمر الطريق

يجوز نصب الضحاك ورفعه.
قوله: { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد، وكان سبب ذلك على ما رُوي في الأخبار أن داوُد (عليه السلام) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه، تقدم إليه يسأله عن داوُد، فيقول له: "ما تقول في داوُد واليكم هذا؛ أي رجل هو؟" فيثنون عليه ويقولون: خيراً فينا هو.
فبينا هو في ذلك يوماً من الأيام إذ قيّض الله ملكاً في صورة آدمي، فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك: نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داوُد ذلك وقال: "ما هي يا عبد الله؟" قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبه لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيُقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضاً: إنما ألان الحديد في يده لما أُعطي من القوّة.
{ أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ } دروعاً كوامل واسعات { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ }، أي لا تجعل المسامير دقاقاً فتغلق ولا غلاظاً فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك: وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد: صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها: السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب:

وعليهما مسرودتان قضاهماداوُد أو صنع السوابغ تُبّع

وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز: سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ:

كما تابعت سرد العنان الخوارز

وسرد الكلام.
{ وَٱعْمَلُواْ } يعني داوُد وآله { صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.