قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مُسيك الغطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ ما كان؛ رجلاً أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلاً من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة؛ فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير.
فقال رجل: وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان" .
والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ، وقد قرىء بهما جميعاً فالإجراء على أنه اسم رجل معروف، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو (هذه تميم).
واختاره أبو عبيد لقوله:
{ فِي مَسْكَنِهِمْ }، واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والنخعي:(مسكنهم) - بفتح الكاف - على الواحد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد.
الباقون: { مَسَاكِنِهِمْ } جمع.
{ آيَةٌ } دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسرها فقال: { جَنَّتَانِ } أي هي جنتان: بستانان { عَن يَمِينٍ } من أتاهما { وَشِمَالٍ } وعن شماله { كُلُواْ }: وقيل لهم: كلوا { مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } على ما أنعم عليكم، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال: { بَلْدَةٌ } أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة { طَيِّبَةٌ } ليست بسبخة. قال ابن زيد: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلاّ أنْ ينظروا لى بيوتهم فتموت الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئاً بيده فذلك قوله سبحانه: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } الهواء، { وَرَبٌّ غَفُورٌ } الخطأ كثير العطاء.
قوله تعالى: { فَأَعْرَضُواْ }، قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله، وذكروهم نعَمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فذلك قوله عز وجل: { فَأَعْرَضُواْ }.
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ }، والعرم: السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة.
وقال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان هذا السد يسقي جنتيهم، وكان فيما ذُكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجِعنَّ أو لنقتلنّكِ. فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول. قالوا: فإنا نطيعكِ فإنا لم نجد فينا خيراً بعدكِ. جاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فأُلقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعاً معاً فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سُليمان ما كان.
وبقوا على ذلك بعدها، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة. فلما طغوا وكفروا، سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخَلَد فنقب من أسفله، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم.
وقال وهب: وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلاّ ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتَهم الرملُ، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلاً عند العرب [فقالوا]: تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، فذلك قوله تعالى: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ }.
وقيل: العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان.
{ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قراءة العامة بالتنوين، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة، وهما متقاربتان كقول العرب: في بستان فلان أعنابُ كرم وأعنابٌ كرمٌ، فتضيف أحياناً الأعناب إلى الكرم؛ لأنه منه، وتنون أحياناً الأعناب، ثم يترجم بالكرم عنها؛ إذ كانت الأعناب ثمر الكرم.
والأكل: الثمر، والخمط: الأراك في قول أكثر المفسرين، وقيل: كل شجرة ذات شوك، وقيل: شجرة الغضا، وقيل: هو كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، { وَأَثْلٍ } وهو الطرفاء، عن ابن عباس، وقيل: هو شجر شبيه بالطرفاء إلاّ أنه أعظم منه، وقال الحسن: الإثل الخشب. قتادة: ضرب من الخشب، وقيل: هو السمر. أبو عبيدة: هو النضار. { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ }، قال قتادة: بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم. قال الكلبي: فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرُسل { ذَلِكَ } الذي جعلنا بهم، { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } أي بكفرهم، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا: { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء، واختاره أبو عبيدة قال: (لقوله): { جَزَيْنَاهُمْ }، ولم يقل: جُوزوا، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء، ومعنى الآية: وهل يُجازى مثل هذا الجزاء إلاّ الكفور، وقال مجاهد: يجازي أي يُعاقب.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي الشام { قُرًى ظَاهِرَةً } أي متواصلة تظهر الثانية من الأُولى لقربها منها. قال الحسن: كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أُخرى، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك.
وقال ابن عباس: قرئ ظاهرة يعني: قرئ عربيّة بين المدينة والشام. سعيد بن جُبير: هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد: هي السروات، وهب بن منبه: هي قرى صنعاء.
{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيراً مقدراً من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، لا ينزلون إلاّ في قرية، ولا يغدون إلاّ في قرية، وقلنا لهم: { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } وقت شئتم { آمِنِينَ }: لا تخافون عدوّاً ولا جوعاً ولا عطشاً، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا: لو كان جَنْيُ جِنانِنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه.
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا }: فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة، واختلف القراء في هذه الآية؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ربنا بعّد)، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد)، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب: { رَبُنَا } برفع الباء { بَاعَدَ } بفتح الباء والعين والدال على الخبر، وهي اختيار أبي حاتم، استبعدوا أسفارهم بطراً منهم وأشراً، وقرأ الباقون: { رَبَّنَا } بفتح الباء، { بَاعِدْ } بالألف وكسر العين وجزم الدال على الدعاء، ففعل الله ذلك بهم، فقال: { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والبطر والطغيان، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ }: عظة وعبرة يتمثل بهم، { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ }، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان.
وقال ابن إسحاق: يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم كان كاهناً فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا همَ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكاسن أو كرود، قال: فكان وادعة بن عمرو.
ومن كان منكم يُريد عيشاً هانئاً وحرماً آمناً فليلحق بالأردن فكانت خزاعة، ومن كان منكم يُريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكان الأوس والخزرج، ومن كان منكم يُريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً وملكاً وتأميراً، فليلحق بكوثى وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام، ومن كان منهم بالعراق.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } قال مطرف: هو المؤمن الذي إذا ُأُعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
قوله: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ }، قرأ أهل الكوفة: بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد، أي ظن فيهم ظناً حيث قال: { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82]، وقال: { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف: 17]، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه، وقرأ الآخرون: { صَدَقَ } بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم.
{ عَلَيْهِمْ } أي على أهل سبأ، وقال مجاهد: على الناس كلّهم إلاّ من أطاع الله { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } إلاّ تسليطنا إياه عليهم { لِنَعْلَمَ }: لنرى ونميز، ونعلمه موجوداً ظاهراً كائناً موجباً للثواب والعقاب، كما علمناه قبل مفقوداً معدوماً بعد ابتلاء منا لخلقنا.
قال الحسن: والله ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلاّ أماني وغروراً دعاهم إليها.
{ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } الآية.
{ قُلِ } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم: { ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أنهم آلهة { مِّن دُونِ ٱللَّهِ }، ثم وصفها فقال: { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } من خير وشر وضرّ ونفع، فكيف يكون إلهاً من كان كذلك؟
{ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا } أي في السماوات والأرض { مِن شِرْكٍ } شركة { وَمَا لَهُ } أي لله { مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ }: عون.
{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } تكذيباً منه لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي: (أُذن) بضم الألف، واختلف فيها عن عاصم، وقرأ غيرهم: بالفتح.
{ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ } قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي، [وقرأ] غيرهما: بضم الفاء وكسر الزاي، أي كشف الفزع، وأخرج { عَن قُلُوبِهِمْ }، وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال: حدثنا أبو عبيد القاضي قال: أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها حتى (إذا فرع عن قلوبهم) - بالراء والعين - يعني: فرعت قلوبهم من الخوف.
واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة؛ من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟
فقال قوم: هم الملائكة، ثم اختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنما يُفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله سبحانه.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال: حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجداً، فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم. قال: فيُرد إليهم، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضاً: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } فرفعه بعضهم.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال: حدثنا علي بن أشكاب قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل (عليه السلام)، فإذا جاءهم جبرائيل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربك؟ قال: يقول: الحق، فينادون: الحق الحق" .
والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال: الحق وهو العلي الكبير" .
وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرَّحْمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله «: "فإذا سمع بذلك أهل السماوات، صعقوا وخرّوا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراده، ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير. قال: فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر الله" .
وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال: قال الحرث ابن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: "يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته، ويأتيني أحياناً في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاماً وهو أهون عليّ" .
وقال بعضهم: إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة.
وقال الكلبي: كان بين عيسى ومحمد(عليهما السلام) فترة زمان طويلة لا يجري فيها الرسل خمسمائة وخمسين عاماً، فلما بعث الله محمداً (عليه السلام) كلّم الله جبرائيل بالرسالة إلى محمد، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا. فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كلّ سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم، فيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم قالوا: قال الحق وهو العلي الكبير؛ وذلك أنّ محمداً عند أهل السماوات من أشراط الساعة، فلما بعثه الله تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلاّ أنها الساعة.
وقال الضحاك: إنّ الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً ويصعقون، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا تنبيه من الله سبحانه وإخبار أنّ الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أنْ يشفعوا لأحد إلاّ أنْ يؤذن لهم، فإذا أذن الله لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم. فكيف تشفع الأصنام؟
وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون.
قال الحسن وابن زيد يعني: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم، قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } [سبأ: 51].
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل: أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأنّ صاحبه كاذب.
والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، إنّ أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال. فالنبيّ ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.
وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود:
يقول الأرذلون بنو قُشير:طوالَ الدهر لا تنسى عليّا
بنو عم النبي وأقربوهأحبُّ الناس كلّهمُ إلَيّا
فإن يك حبهم رشداً أصبْهُوليس بمخطئ إن كان غياً
فقاله من غير شك، وقد أيقن أن حبهم رشد.
وقال بعضهم: { أَوْ } بمعنى الواو، يعني: إنا لعلى هدىً وإنكم إياكم لفي ضلال مبين، كقول جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحاعدلت بهم طُهيّة والخشابا
يعني ثعلبة ورياحا.
{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يوم القيامة { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا }: يقضي بيننا { بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ } يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئاً أم لهم شرك في السماوات: وتفسيرها في سورة (الملائكة) و(الأحقاف).
ثم قال تعالى { كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ }، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه، الحكيم في تدبيره لخلقه، فأنّى يكون له شريك في ملكه؟