{وَقِفُوهُمْ} واحبسوهم، يُقال: وقفته وقفاً فوقف وقوفاً. {إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} قال ابن عباس: عن لا إله إلاّ الله. ضحاك: عن خطاياهم. القرظي: عن جميع أقوالهم وأفعالهم. أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا محمد بن عقبة قال: حدّثنا أبو حصين بن نمير الهمداني قال: حدّثنا حسين بن قيس الرحبي وزعم أنه شيخ صدوق قال: حدّثنا عطاء عن أبي عمر عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه، وما عمِلَ فيما علم" .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن عبد الرَّحْمن بطرسوس قال: حدّثنا أحمد بن خليد قال: حدّثنا يوسف بن يونس الأخطف الأقطس قال: حدّثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دعا الله سبحانه بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسائله عن جاهه كما يسائله عن ماله" .
{مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} أي لا تنتقمون ولا ينصر بعضهم بعضاً، يقوله خزنة النار للكفار، وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نحن جميع منتصر.
قال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} قال ابن عباس: خاضعون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم، وقال أهل المعاني: مسترسلون لما لا يستطيعون له دفعاً ولا منه امتناعاً كحال الطالب السلامة في نزل المنازعة.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} يعني: الرؤساء والأتباع {يَتَسَآءَلُونَ}: يتخاصمون.
{قَالُوۤاْ} يعني: الأتباع للرؤساء: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ} أي من قِبَل اليمين فتضلوننا عنه، قاله الضحاك، وقال مجاهد: عن الصراط الحق: وقال أهل المعاني: أي من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين، وقال بعضهم: أي عن القوة والقدرة كقول الشماح.
إذا ماراية رفعت لمجدتلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة وغرابة اسم ملك اليمن.
{قَالُواْ} يعني: الرؤساء {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا} وعليكم {قَوْلُ رَبِّنَآ} يعنون قوله سبحانه: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13].
{إِنَّا} جميعاً {لَذَآئِقُونَ} العذاب.
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ}: فأضللناكم لأنا كنّا {غَاوِينَ} ضالين، قال الله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوۤاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوۤاْ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. قال الله سبحانه رداً عليهم: {بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابِ ٱلأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} يعني: بكرة وعشية، كقوله: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 62].
{فَوَاكِهُ}: جمع الفاكهة، وهي كلّ طعام يُؤكل للتلذذ لا للقوت الذي يحفظ الصحة، يُقال: فلان يتفكّه بهذا الطعام، {وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ * عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ}: إناء فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلاّ فهو إناء، قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر {مِّن مَّعِينٍ}: خمر جارية في أنهار طاهرة العيون، ويجوز أن يكون فعيلاً من (المعن) وهو الإسراع والشدة من (أمعن في الأمر) إذا اشتدّ دخوله فيه. يعني: خمراً شديدة الجري سريعته.
{بَيْضَآءَ} أي صافية في نهاية اللطافة و{لَذَّةٍ}: لذيذة {لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي إثم عن الكلبي، نظيره { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [الطور: 23]. قتادة: وجع البطن. الحسن: صداع. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. الشعبي: لا تغتال عقولهم فتُذهب بها، وقال أهل المعاني: الغول: فساد يلحق في خفاء، يُقال: اغتاله اغتيالاً إذا فسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية.
{وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قرأ حمزة والكسائي وخلف: بكسر الزاي هاهنا وفي سورة الواقعة، وافقهم عاصم في الواقعة. الباقون: بفتح الزاي فيهما. فمن فتح الزاي، فمعناه: لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، إذا سكر وزال عقله، قال الشاعر:
فلثمتُ فاها آخذاً بقرونهاشرب النزيف ببرد ماء الحشرج
أي السكران، ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم. يُقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره.
قال الحطيئة:
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُلبئس الندامى كنتمُ آل أبجرا
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ}: حابسات الأعين، غاضّات الجفون، قصرن أعينهن عن غير أزواجهن، فلا ينظرن إلاّ إلى أزواجهنّ {عِينٌ} نجل العيون حسانها، واحدتها: عيناء، يُقال: رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ}: جمع البيضة {مَّكْنُونٌ} مستور مصون. قال الحسن وابن زيد شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار، وقيل: شبههن ببطن البيض قبل أن يُقشر، وهو معنى قول ابن عباس، وإنما ذكّر المكنون والبيض جمع؛ لأنه ردّه إلى اللفظ.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} في الجنة. {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} في الدنيا. قال مجاهد: كان شيطاناً، وقال آخرون: كان من الإنس. قال مقاتل: كانا أخوين، وقال الباقون: كانا شريكين: أحدهما فطروس وهو الكافر، والآخر يهوذا وهو المؤمن، وهما اللذان قصّ الله حديثهما في سورة الكهف.
{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ} بالبعث؟ {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}: مجزيون ومحاسبون ومملوكون {قَالَ} الله سبحانه لأهل الجنة: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} إلى النار؟ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أحمد ابن يزيد المقرئ عن جلاد عن الحكم بن طاهر، عن السدي، عن أبي ملك عن ابن عباس أنه قرأ {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ} بخفضهما وبكسر اللام، قال: رافعون فرفع، قال ابن عباس: وذلك أنّ في الجنة كوىً فينظر أهلها منها إلى النار وأهلها.
{فَٱطَّلَعَ} هذا المؤمن {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ} فرأى قرينه في وسط النار.
{قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} ما أردت إلاّ أن تهلكوا وأصله من التردّي. {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي}: عصمته ورحمته {لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ} معك في النار.
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}،فتقول لهم الملائكة: لا، وقيل: إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله سبحانه عليهم في أنّهم لا يموتون ولا يعذّبون، وقيل: يقوله المؤمن على جهة التوبيخ لقرينه بما كان ينكره.
{إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ}