قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة.
وقال ابن عباس: هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: إن رضيت أخذته وإلاّ رددته ورددت معه درهماً، ثم قال: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع، لأن التجارة ليست بباطل.
قرأ أهل الكوفة: (تجارة) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد.
وقرأ الباقون: بالرفع وهو اختيار أبي حاتم، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره: إلاّ أن تكون الأموال تجارة.
كقول الشاعر:
إذا كان طاعناً بينهم وعناقاً
ومن رفع فعلى معنى إلاّ أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له. كقول الشاعر:
فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتيإذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ثم وصف التجارة فقال: { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يرضى كل واحد منهما بما في يديه.
قال أكثر المفسرين: هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلماً" .
وروى حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" .
وابتاع عمر بن جرير فرساً ثم خير صاحبه بعد البيع، ثم قال: سمعت أبا هريرة يقول: هذا البيع عن تراض.
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } يعني إخوانكم، أي لا يقتل بعضكم بعضاً.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سأل الفضل بن عياض عن قوله: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } قال: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها.
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }.
عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال: "لما بعثه رسول الله عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟. قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فتيمّمت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً" .
وعن الحسن: أن الحرث بن عبد الله خلا بالنفر من أصحابه وقال: إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة مل كف من دم مسلم أهراقه، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى: بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة" .
سماك عن جابر بن سمرة: أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
حماد بن زيد عن عاصم الأسدي: ذكر بأن مسروقاً بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال: يا أيها الناس أنصتوا، ثم قال: أرأيتم لو أنّ منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عمّا أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا: نعم. قال: فوالله لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ } الآية ثم انساب في الناس فذهب.
{ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } الذي ذكرت من المحرمات { عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ } ندخله في الآخرة ناراً { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } هيّناً { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية.
اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيراً للصغائر.
فروى عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: أن تزني بحليلة جارك" هذا الحديث من قول الله: { { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ } [الفرقان: 68] الآية.
صالح بن حيان عن أبي بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري" .
الشعبي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرّم الله، وقول الزور أو قال شهادة الزور" .
سفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال: من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟
قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أُمّه فيسب أُمّه.
أبو الطفيل عن ابن مسعود قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والأياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.
عكرمة عن عمار قال: حدثنا طيسلة بن علي النهدي قال: سألت ابن عمر عن الكبائر، فقال: هي تسع قلت ما هن؟ قال: الإشراك بالله تعالى، وقتل المؤمن متعمداً، وعقوق الوالدين المسلمين، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والسحر، وإستحلال الميتة قبلكم أحياءً وأمواتاً.
وقال جعفر الصادق: الكبائر ثلاث: تركك ملتك، وتبديلك سنّتك، وقتالك أهل صفقتك.
وقال فرقد المسيحي: قرأت في التوراة: أُمهات الخطايا ثلاث وهي: أول ذنب عصى الله به الكبر، وكان ذلك لإبليس عليه اللعنة، والحرص، وكان ذلك لآدم (عليه السلام)، والحسد، وكان لقابيل حين قتل هابيل.
عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكبائر أولهنّ: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والإنقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع" .
سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رجلا سأله عن الكبائر السبع، قال: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلاّ أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار.
علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال: الكبائر عشرون: الشرك بالله عزّ وجلّ، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، والسحر، والزنا والربا، والسرقة، وأكل مال اليتيم، وترك الصلاة، ومنع الزكاة، وشهادة الزور، وقتل الولد خشية أن يأكل معك، والحسد، والكبر، والبهتان، والحرص، والحيف في الوصية، وتحقير المسلمين.
السدي عن ابن مالك قال: ذكروا الكبائر عند عبد الله فقال عبد الله: افتحوا سورة النساء، وكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة، ثم قال: مصداق ذلك { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية.
وقال ابن سيرين: ذكر عند ابن عباس الكبائر فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، حتى الطرفة وهي النظرة.
سعيد بن جبير عنه: كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئاً منها فليستغفر، فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلاّ راجعاً عن الإسلام أو جاحد فريضة أو مكذباً بقدر.
علي بن أبي طلحة عنه: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.
سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار وأوعد عليه النار فهي كبيرة.
الحسن: الموجبات للحدود.
الضحاك: ما وعد الله تعالى عليه حدّاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة.
الحسين بن الفضل: ما سمّاه الله في كتابه القرآن كبيراً أو عظيماً، نحو قوله: { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2]، { { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [الإسراء: 31]، { { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]، { { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28]، { { سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16]، { { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } [الأحزاب: 53].
مالك بن معول: الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل الشيّنة.
وكيع: كل ذنب أصرّ عليه العبد فهو كبيرة، وليس من الكبائر ما تاب منه العبد واستغفر منه.
أحمد بن عاصم الأنطاكي: الكبائر ذنوب العمد، والسيئات الخطأ، والنسيان،
والإكراه، وحديث النفس، المرفوعة من هذه الأمة.
سفيان الثوري: الكبائر ما فيه المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما بينك وبين الله تعالى، لأن الله كريم يغفره، واحتجّ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينادي يوم القيامة مناد من بطنان العرش يا أُمّة محمد إن الله عزّ وجلّ يقول: أمّا ما كان لي قبلكم فقد وهبتها لكم وبقي التبعات، فتواهبوا وادخلوا الجنة برحمتي" .
المحاربي: الكبائر ذنوب المذنبين المستحلين مثل ذنب إبليس، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم.
السدي: الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها،
وتبعاتها ما يجتمع فيه الصالح والفاسق، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان واليدان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه" .
وقال قوم: الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب ونحوها، والصغيرة ما نهى الله عنه شرعاً وسمعاً.
وقال: كل ذنب يتجاوز عنه بفضله يوم القيامة فهو صغيرة، وكل ذنب عذّب عليها بعدله فهو كبيرة. وقيل: الكبائر الذنوب الباطنة والسيئات الذنوب الظاهرة.
وقال بعضهم: الصغائر ما يستحقرونه العباد والكبائر ما يستعظمونه فيخافون واقعته.
وقال أنس بن مالك: إنكم تعملون أعمالا هي أدق من الشعر في أعينكم كنّا نعّدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر.
وقال بعضهم: الكبائر الشرك وما يؤدّي إليه، وما دون الشرك فهو من السيئات، قال الله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48].
فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عددالكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة
أحدها: الإشراك بالله لقوله تعالى: { { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ } [المائدة: 72].
الثاني: الأياس من روح الله لقوله: { { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } [يوسف: 87] الآية.
والثالث: القنوط من رحمة الله لقوله: { { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } [الحجر: 56].
والرابع: الأمن من مكر الله لقوله: { { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99].
والخامس: عقوق الوالدين لقوله: { { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23].
والسادس: قتل النفس التي حرّم الله لقوله: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } [النساء: 93] الآية.
والسابع: قذف المحصنة لقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ } [النور: 23] الآية.
والثامن: الفرار من الزحف لقوله: { { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } [الأنفال: 15] الآية.
التاسع: أكل الربا لقوله: { { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَا } [البقرة: 275] الآية.
والعاشر: السحر لقوله: { { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } [البقرة: 102].
والحادي عشر: الزنا: { { وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [الفرقان: 68].
والثاني عشر: اليمين الكاذبة لقوله: { { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [آل عمران: 77] الآيتين.
والثالث عشر: منع الزكاة لقوله: { { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } [التوبة: 34] الآيتين.
والرابع عشر: الغلول لقوله: { { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [آل عمران: 161].
والخامس عشر: شهادة الزور لقوله: { { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ } [البقرة: 283] الآية.
والسادس عشر: الميسر وهو القمار لقوله: { { وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ } [المائدة: 90].
والسابع عشر: شرب الخمر لقوله: { { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } [المائدة: 90] الآية.
والثامن عشر: ترك الصلاة متعمداً لقوله: { { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ } [البقرة: 238] الآية.
والتاسع عشر: قطيعة الرحم لقوله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } [النساء: 1] وقوله: { { وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } [محمد: 22].
والعشرون: الحيف من الوصية لقوله: { { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } [البقرة: 182] الآية.
والحادي والعشرون: أكل مال اليتيم لقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً } [النساء: 10] الآية.
والثاني والعشرون: التغرب بعد الهجرة لقوله: { { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً } [آل عمران: 144].
والثالث والعشرون: استحلال الحرم لقوله: { { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } [المائدة: 2]، وقوله: { { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [الحج: 25].
والرابع والعشرون: الإرتداد لقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ } [محمد: 25] الآية.
والخامس والعشرون: نقض العهد لقوله: { { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } [الرعد: 25].
فذلك قوله تعالى: { إِن تَجْتَنِبُوا كبائر } .
وقرأ ابن مسعود: كبر ما تنهون عنه، على الواحد، وفيه معنى مع { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر" .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وهي الجنة.
وقرأ عاصم وأهل المدينة: (مدخلا) بفتح الميم وهو موضع الدخول.
وقرأ الباقون: بالضم على المصدر، معنى الأدخال.
وروي عن أبي هريرة وعن أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم سكت فأقبل كل رجل منّا يبكي حزناً ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما من عبد يأتي بالصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلاّ فتحت له أبواب الجنة يوم القيامة حتى أنها لتصطفق" ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية.
{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } الآية.
يقال: جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أليس الله ربّ الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعاً، فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكر النساء؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله: { { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } [الأحزاب: 35] الآية، وقوله: { { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [النحل: 97].
وقيل: لمّا جعل الله للذكر مثل حظ الأُنثيين في الميراث، قالت النساء: نحن أحوج إلى أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منّا، فنزّل الله هذه الآية.
وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزوا ونبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة والسدي: لما نزل قوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }، قال الرجال: إنا لنرجوا أن يفضل علينا النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء: إنا لنرجوا أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل الله { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ } من الثواب والعقاب { وَلِلنِّسَآءِ } كذلك، قاله قتادة، وقال أيضاً: هو أن الرجل يجزي بالحسنة عشرة والمرأة تجزي بها عشراً.
وقال ابن عباس: للرجال نصيب ممّا اكتسبوا من الميراث، وللنساء نصيب منه { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }، والإكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والأحراز، فنهى الله تعالى عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد.
قال الضحاك: لا يحل لمسلم أن يتمنى مال أحد، ألم يسمع الذين قالوا: { { يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ } [القصص: 79] إلى أن قال { { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ } [القصص: 82] حين خسف بداره وأمواله يقولون: { { لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } [القصص: 82].
وقال الكلبي: لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته، ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله، وهو كذلك في التوراة،
وذلك قوله في القرآن: { وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ } [النساء: 32].
قرأ ابن كثير وخلف والكسائي: (وَسلوا الله) وسل وفسل بغير همزة فنقل حركة الهمزة إلى السين.
الباقون: بالهمزة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله فإنه يحبّ أن يُسأل وأن من أفضل العبادة إنتظار الفرج" .
أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يسأل الله عزّ وجلّ من فضله غضب عليه" .
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: سلوا ربّكم حتى الشبع من لم يُيسّره الله لم يتيسّر.
وقال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلاّ ليعطي.
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي ولكل واحد من الرجال والنساء موالي، أي عصبة يرثونه { مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ } من ميراثهم له، والوالدون والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون، وقيل: معناه ولكل جعلنا موالي، أي قرابة من الذين تركهم، ثم فسّر الموالي فقال: { ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ } أي هم الوالدان والأقربون خبر مبتدأ محذوف فالمعنى: من تركة الوالدان والأقربون، وعلى هذا القول هم الوارثون { وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ } في محل الرفع بالإبتداء، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين.
وقرأ أهل الكوفة: عقدت خفيفة بغير ألف أراد عقدت لهم { أَيْمَانُكُمْ } وقرأت أم سعد بنت سعد بن الربيع: (عقّدت) بالتشديد يعني وثقته وأكدته، والأيمان جمع يمين من اليد والقسم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم، فيأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ويتحالفون عليه، فلذلك ذكر الأيمان.
قتادة وغيره: أراد بالذين عاقدت إيمانكم الحلفاء، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمُك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي وحربك وسلمي وسلمك وترثني وارثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه لذلك قوله: { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله: { { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [الأنفال: 75].
وقال إبراهيم ومجاهد: أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد، ولا ميراث، وعلى هذا القول تكون الآية غير منسوخة لقوله تعالى: { { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [المائدة: 1]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوفوا للحلفاء بعهودهم التي عقدت أيمانكم" .
ولقوله(عليه السلام) في خطبته يوم فتح مكة: "ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلاّ شدة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام" .
وروى عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم وإنّي أنكثه" ، وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين أتوا إلى المدينة، وكانوا يتوارثون تلك المؤاخاة، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض.
وقال سعيد بن المسيّب: نزلت في الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية، ومنهم زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُمروا في الإسلام (أن) يوصوا إليهم عند الموت بوصية، وردّ الميراث إلى ذوي الرحم، وأبى الله أن يجعله يجعل للمدّعى ميراثاً ممّن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكن جعل الله لهم نصيباً في الوصية، فذلك قوله: { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }.
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } وقال أبو روق: نزل قوله: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } الآية في أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن، وكان كافراً، أن لا ينفعه ولا يورثه شيئاً من ماله، فلمّا أسلم عبد الرحمن أُمر أن يؤتى نصيبه من المال.
{ ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } الآية قال مقاتل: "نزلت هذه الآية في سعيد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وهما من الأنصار وذلك أنها نشزت فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي ولطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لتقتصَّ من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليرجعوا، هذا جبرئيل، وأُنزلت هذه الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أردنا أمراً وأراد الله أمراً، فالذي أراد الله خير، ورُفع القصاص" .
وقال الكلبي: نزلت في أسعد بن الربيع وامرأته بنت محمد بن مسلم، وذكر نحوها أبو روق: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أُبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستعدي، فأنزل الله تعالى هذه الآية { ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } أي مسلّطون على تأديب النساء { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } فليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس، فلو شجّ رجل امرأته، أو جرحها لم يكن عليه قود، وكان عليه العقل إلاّ التي يقتلها فيُقتل بها، قاله الزهري وجماعة من العلماء، وقال بعضهم: ليس بين الزوج والمرأة قصاص إلاّ في النفس والجرح.
والقوّامون: البالغون في القيام عليهن بتعليمهنّ وتأديبهنّ وإصلاح أمرهنّ { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } قيل: بزيادة العقل، وقيل: بزيادة الدّين واليقين، وقيل: بقوة العبادة، وقيل: بالشهادة، قال الله: { { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } [البقرة: 282]، قال القرظي: بالتصرّف والتجارات، وقيل: بالجهاد، قال الله: { { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [التوبة: 41]، وقال للنساء: { { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب: 33]، الربيع: الجمعة والجماعات، قال الحسن: بالإنفاق عليهنّ، قال الله تعالى: { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ }.
وقال بعضهم: يمكن للرجل أن ينكح أربع نسوة، ولا يحلّ للمرأة غير زوج واحد، وقيل: هو إنّ الطلاق إلى الرجال وليس إليهنّ منه شيء، وقيل: بالدّية، وقيل: بالنبوّة، وقيل: الخلافة والإمارة، إسماعيل بن عياش [.........] عن بعض أشياخه رفعه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج.
فقيل: يا رسول الله، وإن كان لها مال؟ قال: وإن كان لها مال، الرجال قوّامون على النساء" .
سعيد (عن أبي سعيد المقبري) عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها، ثم تلا صلى الله عليه وسلم { ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } " .
{ فَٱلصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ } مطيعات { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } يعني لغيب أزواجهنّ إذا غابوا، وقيل: سرّهم { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } أي بحفظ الله لهنّ، وقرأ أبو جعفر بفتح الهاء، ومعناه: بحفظ من الله في الطاعة، وهذا كقوله عليه السلام: "احفظ الله يحفظك"، و { مَآ } على القراءتين [مصدريّة]، كقوله: { { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } [يس: 27]، أي يغفر لي ربّي.
{ وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن، وأصله من الحركة { فَعِظُوهُنَّ }، فإنْ نزعن عن ذلك وإلاّ { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ }، وقيل: ولّوهنّ ظهوركم في المضاجع، فإن نزعن وإلاّ { وَٱضْرِبُوهُنَّ } ضرباً غير مبرح ولا شائن.
ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " { علّق السوط حيث يراه أهل البيت } ". هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها.
{ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } أي لا [تطلبوا] عليهنّ بالذنوب، قال ابن عينه: لا تكلفوهن الحبّ.
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أي خلافاً بين الزوجين، { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } يتوسطون، { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً } يعني الزوجين وقيل: الحكمين، { يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ } بالصلاح والإلفة، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }.
وعن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة علياً (عليه السلام)، مع كل واحد منهما قيام من النّاس، فقال عليٌّ: "ما شأن هذين؟". قالوا: وقع بينهما شقاق. قال عليٌّ: { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } . قال: فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فقال عليٌ للحكمين: "هل تدريان ما عليكما؟ إنّ عليكما إنْ رأيتما أن يُجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن يُفرّقا فرقتما"، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، فقال الرجل: أمّا الفرقة فلا، قال عليٌ: "كذبت والله، لا تنقلب منّي حتى تقرّ بما أقرّت به".
{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } وحّدوا الله وأطيعوه، قالت الحكماء: العبودية ترك العصيان، وملازمة الذلّ والانكسار، وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرّضا بالموجود، والصبر على المفقود.
{ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } برّاً بهما وعطفاً عليهما. وقرأ ابن جني: (إحسانٌ) بالرفع، أي وجب الإحسان بهما، { وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ } عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: "إن أردت أن يلين قلبك فاطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم وأطعمه" .
{ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ }: قرأ العامة بالخفض عطفاً على الكلام الأول، وقرأ ابن أبي عبلة: { وَٱلْجَارِ } وما يليه نصباً. و { وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } ذو القرابة { وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ } البعيد الذي بينك وبينه قرابة، وقال الضحاك: هو الغريب من قوم آخرين، وقرأ الأعمش والفضل: (والجار الجنب) بفتح الجيم وسكون النون، وهما لغتان: رجل جَنْب وجُنُب وجانب وأجنب وأجنبيّ، إذا لم يكن قريباً، وجمعها أجانب، وقال الاّعشى:
أتيت حريثاً زائراً عن جنابةفكان حريث في عطائي جامدا
أي عن غربة من غير قربة، ومنه يقال: اجتنب فلان فلاناً، إذا بعد منه، ومنه قيل للمجنب: جنب لاعتزاله الصّلاة، وبُعده من المسجد حتى يغتسل، وقال نوف البكالي: الجار الجُنب هو الكافر، { وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ } يعني الرفيق في السفر، قال ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر وعكرمة وقتادة، عن سعيد بن معروف بن رافع، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمسوا الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق" .
وقال بعضهم: الجار الجُنب هو الجار اللاصق داره بدارك، فهو إلى جنبك، وقال علي وعبد الله وابن أبي ليلى والنخعي: هو المرأة تكون معه إلى جنبه. ابن زيد وابن جريج: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء برّك ورفدك. وقال ابن عباس: إنّي لاستحي أن يطأ الرجل بساطي ثلاث مرات لا يُرى عليه أثر من برّي. وقال المهلّب: إذا غدا عليكم الرجل وراح، فكفى به مسألة وتذكرة بنفسه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ خير الأصحاب عند الله عز وجلّ خيرهم لصاحبه، خير الجيران عند الله خيرهم لجاره" .
عثمان بن عطا، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه، فأيّما رجل أغلق أبوابه دون جاره، فخافه على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن. قالوا: يا رسول الله، وما حق الجار؟ قال: إن دعاك أجبته، وإن أصابته فاقة عُدت عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عُدته، وإن أصابه مصيبة عزّيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعلُ عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه، ولا تؤذه بقتار قِدرك إلاّ أن يُغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهدِ له منها، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً، ولا يخرج ولدك منها فيغيظ ولده" .
ثم قال صلى الله عليه وسلم "الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقّان، ومنهم من له حق واحد؛ فأما صاحب الثلاثة الحقوق: فالمسلم الجار ذو الرحم، له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم، وأمّا صاحب الحقّين: فالمسلم الجار له حق الإسلام وحق الجار، وأمّا صاحب الحق الواحد، فالمشرك الجار،
له حق الجوار، وإن كان مشركاً" .
أبو هشام القطان، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن حارب جاره فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله عزّ وجلّ" .
{ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني المماليك، عن أبي أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى أبي ذّر غلاماً، فقال: "يا أبا ذّر أطعمه مما تأكل واكسُه مما تلبس، قال: لم يكن له سوى ثوب واحد فجعله نصفين، فراحَ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما شأن ثوبك هذا؟، فقال: إن الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أُطعمه مما آكل واكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلاّ هذا الثوب فناصفته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُشير عليك بأن تعتقه، ثم قال رسول الله: ما فعل فتاك؟ قال: ليس لي فتًى فقد أعتقته، قال: آجرك الله يا أبا ذّر" .
الأعمش عن عتيق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الغنم بركة، والإبل عزّ لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والعبد أخوك فإن عجز فأعنه" .
وعن عليِّ (رضي الله عنه) قال: "كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم".
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }.