خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٣
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٤
فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

الكشف والبيان

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } لم يضعف عن إبداعهن، ولم يعجز عن اختراعهن. { بِقَادِرٍ } قراءة العامة (بالباء) و(الألف) على الاسم واختلفوا في وجه دخول (الباء) فيه، فقال أبو عبيدة والأخفش: هي صلة، كقوله: { { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20] وقال الحارث بن حلزة:

قيل ما اليوم بيّضت بعيون النّاس فيها تغيّظ وإباء

أراد بيضت عيون النّاس. وقال الكسائي والفراء: (الباء) فيه جلبت الاستفهام والجحد في أوّل الكلام، كقوله: { { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ } [يس: 81] . والعرب تدخلها في الجحود، إذا كانت رافعة لما قبلها، كقول الشاعر:

فما رجعتْ بخائبة ركابحكيم بن المسيّب منتهاها

وقرأ الأعرج وعاصم الجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب بن إسحاق { يقدر } (بالياء) من غير (ألف) على الفعل، واختار أبو عبيد قراءة العامّة لأنّها في قراءة عبد الله { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } بغير (باء).
{ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ } فيقال لهم: { أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ } لهم المقرّر بذلك { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُل }
قال ابن عبّاس: ذوو الحزم. ضحّاك: ذوو الجدّ والصّبر. القرظي: ذوو الرأي والصواب. واختلفوا فيهم، فقال ابن زيد: كلّ الرسل كانوا أُولي عزم، ولم يتّخذ الله رسولاً، إلاّ كان ذا عزم، وهو اختيار علي بن مهدي الطبري، قال: وإنّما دخلت { مِنَ } للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال: اشتريت أكسية من الخزّ، وأردية من البز. حكاها شيخنا أبو القاسم بن حبيب عنه.
وقال بعضهم: كلّ الأنبياء (عليهم السلام) أُولوا عزم، إلاّ يونس، ألا ترى إنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يكون مثله، لخفّة وعجلة ظهرت منه حين ولّى من قومه مغاضباً، فابتلاه الله بثلاث: سلّط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلّط الذئب على ولْدِهِ فأكلهم، وسلّط الحوت عليه حتّى ابتلعه.
سمعت أبا منصور الجمشاذي يحكيها، عن أبي بكر الرازي، عن أبي القاسم الحكيم. وقيل: هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر، وهو اختيار الحسين بن الفضل، قال: لقوله في عقبه:
{ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90].
وقال الكلبي: هم الّذين أُمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا الكفرة بالبراءة، وجاهدوهم. أخبرنا ابن منجويه الدينوري، عن أبي علي حبش المقري، قال: قال بعض أهل العلم: أولو العزم اثنا عشر نبيّاً أُرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله تعالى إلى الأنبياء (عليهم السلام): «إنّي مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل»، فشقَّ ذلك عليهم، فأوحى الله تعالى إليهم أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل. فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب، وذلك إنّه سلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سُلخ جلد رأسه ووجهه، ومنهم من رُفع على الخشب، ومنهم من أُحرق بالنّار، وقيل هم ستّة: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى.
وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراب والشعراء. وقيل أصحاب الشرائع، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلى الله عليه وسلم.
وقال مقاتل: أولو العزم ستّة: نوح صبر على أذى قومه فكانوا يضربونه حتّى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النّار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر في البئر وفي السجن، وأيّوب صبر على ضرّه.
وقال الحسن البصري: هم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى. فقال: إبراهيم فعزمه قيل له: أسلم، قال: أسلمت لربّ العالمين. ثمّ ابتلي في ماله، وولده، ووطنه، ونفسه، فَوجِدَ صادقاً وافياً في جميع ما أُبتلي به، وأمّا موسى، فعزمه قوله حين قال له قومه:
{ { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] قال: { { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62].
وأمّا داود، فعزمه أنّه أخطأ خطيئة، فنُبّه عليها، فبلي أربعين سنة على خطيئته حتّى نبتت من دموعه شجرة، وقعد تحت ظلّها، وأمّا عيسى فعزمه أنّه لم يضع في الدُّنيا لبنة على لبنة، وقال: إنّها معبر فاعبروها، ولا تعمروها. فكان الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } أي كن صادقاً فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقاً بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتمّاً لما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى (عليه السلام).
حدّثنا الإمام أبو منصور محمّد بن عبد الله الجمشاذي لفظاً، أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمّد بن أحمد القاضي، أخبرنا أبو عبد الرحمن، أخبرنا ابن أبي الربيع، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ }، قال: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام).
أخبرنا أبو منصور الجمشاذي، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن يوسف الدقّاق، أخبرنا الحسن ابن محمّد بن جابر، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع ابن أنس، عن أبي العالية في قوله: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ }، قال: كانوا ثلاثة: نوح، وإبراهيم، وهود، ومحمّد رابعهم، أُمر أن يصبر كما صبروا.
أخبرني أبو عبد الله بن منجويه، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن برزة، حدّثنا الحارث بن أبي أُسامة، حدّثنا داود بن المخبر، حدّثنا سليمان بن الحكم، عن الأحوص بن حكيم بن كعب الحبر، قال: في جنّة عدن مدينة من لؤلؤ بيضاء، تكلّ عنها الأبصار، لم يرها نبي مرسل ولا ملك مُقرَّب، أعدّها الله سبحانه وتعالى لأُولي العزم من الرُّسل والشهداء والمجاهدين، لأنّهم فضّلوا الناس عقلاً وحلماً وإنابة ولبّاً.
{ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } العذاب. { لَهُمْ } فإنّه نازل بهم لا محالة. { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب في الآخرة { لَمْ يَلْبَثُوۤاْ } في الدُّنيا { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } يعني في جنب يوم القيامة، وقيل: لأنّه ينسيهم هول ما عاينوا قدر مكثهم في الدُّنيا. ثمّ قال: { بَلاَغٌ } أي هذا القرآن وما ذكر فيه من البيان بلاغ بلغكم محمّد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، دليله ونظيره في سورة إبراهيم.
(عليه السلام) { فَهَلْ يُهْلَكُ } بالعذاب إذا نزل { إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } الخارجون عن أمر الله تعالى.
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي، حدّثنا سعد بن محمّد بن إسحاق الصيرفي، حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شنبه، حدّثنا منجاب بن الحارث، حدّثنا علي بن مهير، حدّثنا ابن أبي ليلى، عن الحكيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فلتكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثمّ تُغسّل، ثمّ تسقى منها: بسم الله الرّحمن الرّحيم لا إله إلاّ الله الحليم الكريم سبحان الله
{ { مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [المؤمنون: 86]. { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ }.