خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
٢٢
وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٥
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٢٦
-الأنفال

الكشف والبيان

{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ } يعني أن شرّ [الدواب] على وجه الأرض من خلق الله { عِندَ ٱللَّهِ } فقال الأخفش: كل محتاج إلى غذا فهو دابة.
{ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ } عن الحق كأنّهم لا يسمعون ولا ينطقون.
قال ابن زيد: هم صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ
{ { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46].
وقال ابن عباس وعكرمة: هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صُمٌّ بُكم عُمّي عن مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه، [فكانوا] جميعاً [بأُحد]، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلاّ رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أمر الله { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً } صدقاً وإسلاماً { لأَسْمَعَهُمْ } لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } عن القرآن { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } عن الإيمان بالقرآن لعلم الله فيهم وحكمه عليهم بالكفر { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } اختلفوا في قوله (لما يُحييكم):
فقال السدي: هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد: للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال ابن إسحاق: لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل. وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وقال [القتيبي]: لمّا يحييكم: لما يُتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله
{ { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169] فاللام في قوله (لما) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلُّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: "مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال: تعال إلي، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك؟ أليس الله يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم.
قال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصلياً.
قال: تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها؟
قال أُبي: نعم يا رسول الله.
قال: لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها والنبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي: يا رسول الله، فوقف فقال: نعم كيف تقرأ في صلاتك فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن [مثلها] وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ"
.
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قال سعيد بن جبير: معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
ابن عباس: بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال: يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيراً.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه.
وقال قتادة: معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجلّ
{ { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق: 16].
وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل [فيهم]
{ { قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [آل عمران: 167] وأعلموا أن الله يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمناً والجُبن جُرأة.
وقيل: يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير.
وقرأ الحسن: بين المرء، وبتشديد الراء من غير همزة.
وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة.
و{ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ويجزيكم بأعمالكم.
قال أنس بن مالك:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا: يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا؟
قال: إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه"
.
والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله: بين إصبعين: بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة.
قال الشاعر:

صلاة وتسبيح والخطأ نائلوذو رحم تناله منك إصبع

أي أثر حسن.
وقال آخر:

مَنْ يجعل الله عليه اصبعاًفي الشر أو في الخير يلقه معاً

فالإصبع أيضاً في اللغة الإصبع.
فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان.
قال الشاعر:

حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكنللغدر خائنة مغل الإصبع

{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً } أي اختبار وبلاء يصيبكم.
وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة { لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } واختلفوا في وجه قوله { لاَّ تُصِيبَنَّ } من الاعراب.
فقال أهل البصرة: قوله (لا تصيبن) ليس بجواب ولكنّه نهي بعد أمره، ولو كان جواباً ما دخلت النون.
وقال أهل الكوفة: أمرهم ثمّ نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهياً كقوله:
{ { ٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [النمل: 18]. أمرهم ثمّ نهاهم، وفيه تأويل الجزاء وتقديره: واتقوا الله إن لم تنتهوا أصابتكم.
وقال الكسائي: وقعت النون في الجر بمكان التحذير، فلو قلت: قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنّه جزاء محض.
وقال الفراء: هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول: أنزل عن الدابة لا يطرحك. ولا يطرحنك فهذا [جزاء من] الأمر بلفظ النهي. ومعناه: إن تنزل عنه لا يطرحنّك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقال الحسن: نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوّام: يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها.
واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة. فحلفنا حتّى أصابتنا خاصّة. قال السدي: هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصّة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا.
وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلاّ هو مشتمل على الفتنة إنّ الله يقول:
{ { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [الأنفال: 28] فإيّكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلاّت الفتن.
حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستنّ بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم الله بها النار" .
يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتّى تأتي فتنة [عمياء مظلمة] المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي.
فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن أدركتني [وأنا مضطجع] قال: فامش.
قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي. قال ارقد قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس. قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس.
قال: فقل هكذا بيدك، وضم يديه الى جسده، حتّى تكون عند الله المظلوم ولا تكون عند الله الظالم"
.
عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفة قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } في العدد { مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أرض مكّة في عنفوان الإسلام { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ } يُذهب بكم { ٱلنَّاسُ } كفّار مكّة، وقال وهب: فارس والروم { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة { وَأَيَّدَكُم } يوم بدر أيدكم بالانتصار وأُمدّكم بالملائكة { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلاًّ وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطناً وأغراهم جلوداً وآمنهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقياً ومن مات منهم ردى في النار مكعوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم.
يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلاً منهم حتّى جاء الله عزّ وجلّ بالاسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس.
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له [وأجمل] الشكر في مزيد من الله تعالى.