خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٤
-الفاتحة

الدر المصون

يجوز أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مشتقٌّ من المَلْك بفتح الميم، وهو الشدُّ والربط، قال الشاعر:

45ـ مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها

ومنه: "إملاكُ العَروسِ"، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح.
وقُرئ "مالِك" بالألف، قال الأخفش: "يقال: مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ بضم الميم، ومالكٌ بيِِّنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها"، ورُوِي ضَمُّها أيضاً بهذا المعنى. ورُوي عن العربِ: "لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك" مثلثةَ الفاء، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ، والمضمومُ هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره، والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه، ولا يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه. وقال الراغب: "والمِلْك - أي بالكسر - كالجنس للمُلْك - أي بالضم - فكل مِلْك - بالكسر - مُلك، وليس كل مُلك مِلكاً"، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك - بالضم، ومالِكاً مأخوذ من المِلْك بالكسر. وقيل: الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل مَنْ يَمْلِكُ السياسة: إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ هواها، وإمَّا في نفسه وفي غيره، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ.
وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى، وهذا غير مَرْضِيٍّ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال: ["إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى" نقله أبو عمر الزاهد في "اليواقيت". وقال الشيخ شهابُ الدين أبو شامةَ: "وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين، حتى إنَّ بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما، ثم قال: "حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ" ذكر ذلك عند قوله: "مَلِك يوم الدين ومالِك".
وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه. فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ "مالك" أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه، إذ يقال: "مالِكُ الجِّن والإِنس والطير"، وأنشدوا على ذلك:

46ـ سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ

وقالوا: "فلانٌ مالكُ كذا" لمَنْ يملكه، بخلاف "مِلك" فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو: "مَلِك العرب والعجم"، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في "الرحمن"، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي "مَلِك".
وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ "مَلِك" ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ: "مالك" لأنها تكرارٌ، قال أبو عليّ: "ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ، نحو:
{ { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24]. وقال أبو حاتم: "مالِك" أَبْلَغُ في مدح الخالق، و "مَلِك" أبلغُ في مدحِ المخلوقِ، والفرقُ بينهما أن المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك، وإذا كان الله تعالَى مَلِكاً كان مالكاً. واختاره ابن العربي. ومنها: أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك، بخلافِ "مالك" فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم، ولإِشعارِه بالكثرةِ، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك، بقوله تعالى: "قل اللَّهُمَّ مالكَ المُلْكِ" ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم- الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه.
وقُرئَ مَلْك بسكون اللام، ومنه:

47ـ وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا

ومَليك. ومنه:

48ـ فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها

ومَلِكي، وتُرْوَى عن نافع.
إذا عُرف هذا فكونُ "مَلِك" نعتاً لله تعالى ظاهر، فإنه معرفةٌ بالإِضافة، وأمَّا "مالك" فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً، لأنَّ إضافته محضة فَيَتعرَّف بها، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ: "مَلَكَ يومَ الدين"، فجعل "مَلَك" فعلاً ماضياً، وإن أُريد به الحالُ أو الاستقبال فَيُشْكِلُ، لأنه: إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف، وإذا لم يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم. والذي ينبغي أن يُقالَ: إنه نعتٌ على معنى أنَّ تقييدَه بالزمانِ غيرُ معتَبَرٍ، لأنَّ الموصوفَ إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غيرَ معتبرٍ، فكأنَّ المعنى - والله أعلم - أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ مطلقاً، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ، وهذا ما مالَ إليه أبو القاسم الزمخشري.
وإضافةُ مالك ومَلِك إلى "يوم الدين" من باب الاتِّساع، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم، والتقدير: مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين. ونظيرُ إضافة "مالك" إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة "طَبَّاخ" إلى "ساعات" من قول الشاعر:

49ـ رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ

إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو "زادَ الكَسِل"، وفي الآيةِ الكريمةِ غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه. ويجوز أن يكونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ حَذْفٍ.
ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ، ويؤيِّدُه ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ: "مَلَكَ يومَ الدينِ" فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها كونُ "يوم" مفعولاً به. والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل، ومنهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى "في" مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى:
{ { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [سبأ: 33]، قال: "المعنى مَكْرٌ في الليل، إذ الليل لا يُوصَف بالمكرِ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ، فالمكرُ واقعٌ فيه". والمشهورُ أن الإِضافةَ: إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى "مَنْ"، وكونها بمعنى "في" غيرُ صحيح. وأمَّا قولُه تعالى: { { مَكْرُ ٱلَّيْلِ } فلا دَلالةَ فيه، لأن هذا من باب البلاغة، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما، فهو نظيرُ قولهم: نهارُه صائمٌ وليلُه قائم، وقولِ الشاعر:

50ـ أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ

لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في ذلك، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم.
واليومُ لغةً: القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار، قال تعالى:
{ { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } [القيامة: 29-30]، وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس. وقال الراغب: "اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ الشمس إلى غروبها"، قلت: وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك.
والدِّيْنِ: مضافٌ إليه أيضاً، والمرادُ به هنا: الجزاءُ، ومنه قول الشاعر:

51ـ ولم يَبْقَ سوى العُدْوا نِ دِنَّاهم كما دَانُوا

أي جازَيْناهم كما جازونا، وقال آخر:

52ـ واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ

ومثله:

53ـ إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا

ومثله:

54ـ حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ

وله معانٍ أُخَرُ: العادَة، كقوله:

55ـ كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ

أي: كعادتك: ومثلُه:

56- تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني أهذا دِينُه أبداً ودِينِي

ودانَ عصى وأطاع، وذلَّ وعزَّ، فهو من الأضداد. والقضاءُ، ومنه قوله تعالى: { { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } [النور: 2] أي في قضائِه وحكمه، والحالُ، سُئل بعضُ الأعراب فقال: "لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه لأَجَبْتُكَ" أي: على حالة. والداءُ: ومنه قول الشاعر:

57ـ يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا ..............................

ويقال: دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً - بفتح الدال وكسرها في المصدر - أي جازَيْتُه. والدِّينُ أيضاً: الطاعةُ، ومنه: { { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً } [النساء: 125] أي: طاعةً، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً، قال تعالى: { { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ } [آل عمران: 83] يعني الإِسلام، بدليل قوله تعالى: { { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85]. والدِّينُ: سيرة المَلِك، قال زهير:

58ـ لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ

يقال: دِينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ، ومنه قيل للعبدِ، مَدين ولِلأمَةِ مَدِينة. وقيل: هو من دِنْتُه إذا جازيته بطاعته، وجَعَل بعضُهم المدينةَ من هذا الباب، قاله الراغب. وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها.