خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
-يونس

الدر المصون

قوله تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ }: هذا الامتناعُ نفي في المعنىٰ تقديره: لا يُعَجِّلُ لهم الشرَّ. قال الزمخشري: "فإن قلت: كيفَ اتَّصل به قولُه: "فَنَذَرُ الذين لا يَرْجُون لقاءَنا وما معناه؟ قلت: قولُه: "ولو يُعَجِّل" متضمِّنٌ معنى نفي التعجيل كأنه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشرِّ ولا نَقْضي إليهم أجلَهم".
قوله: { ٱسْتِعْجَالَهُمْ } فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على المصدرِ التشبيهيِّ تقديرُه: استعجالاً مثلَ استعجالِهم، ثم حَذَفَ الموصوفَ وهو "استعجال" وأقامَ صفتَه مُقامه وهي "مثل" فبقي: ولو يعجل اللَّهُ مثل استعجالِهم، ثم حَذَفَ المضافَ وأقام المُضاف إليه مُقامه. قال مكي: "وهذا مذهبُ سيبويه" قلت: وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ أن مذهبَ سيبويه في مثل هذا أنه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْرِبين غيرَه، ففي نسبةِ ما ذكرته أولاً لسيبويه نظرٌ.
الثاني: أن تقديرَه: تعجيلاً مثلَ استعجالهم، ثم فُعِل به ما تقدَّم قبلَه. وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلَه، فإنَّ "تعجيلاً" مصدر لـ"عَجَّل" وما ذكره مكي موافقٌ للمصدر الذي بعده، والذي يظهر ما قدَّره أو البقاء لأن موافقةَ الفعلِ أولَىٰ، ويكون قد شبَّه تعجيلَه تعالَىٰ باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكي فإنه لا يظهر، إذ ليس "استعجال" مصدراً لـ"عجَّل".
وقال الزمخشري: أصلُه: ولو يُعَجِّل الله للناسِ الشرَّ تعجيلَه لهم الخير، فوضع "استعجالهم بالخير" موضعَ "تعجيله لهم الخيرَ" إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافِه بطلبهم، كأنَّ استعجالَهم بالخير تعجيلٌ لهم". قال الشيخ: "ومدلولُ "عَجَّل" غيرُ مدلولِ "استعجل" لأنَّ "عَجَّل" يدلُّ على الوقوع، و "استعجل" يدلُّ على طلب التعجيل، وذلك واقعٌ من الله، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون التقدير: تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التعجيلَ بالاستعجال؛ لأن طلبَهم [للخير] ووقوعَ تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كل شيء. والثاني: أن يكون ثَمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدرُ تقديرُه: ولو يعجِّل اللَّهُ للناسِ الشرَّ إذا استعجلوا به استعجالَهم بالخير، لأنهم كانوا يستعجلون بالشرِّ ووقوعِه على سبيل التهكم كما كانوا يستعجلون بالخير". الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاط كافِ التشبيهِ، والتقدير: كاستعجالهم. قال أبو البقاء. "وهو بعيدٌ، إذ لو جاز ذلك لجاز "زيد غلامَ عمرو" أي: كغلام عمرو" وبهذا ضَعَّفه جماعةٌ وليس بتضعيفٍ صحيحٍ، إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدى بنفسه عند حذف الجار، وفي الآيةِ فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك وهو قوله "يُعَجِّل". وقال مكي: "وَيَلْزَمُ مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ حرفِ الجر منه أن يجيز "زيدُ الأسدُ" أي: كالأسدِ" قلت: قوله "ويلزم إلى آخره" لا ردَّ فيه على هذا القائل إذ يلتزمه، وهو التزام صحيح سائغ، إذ لا ينكر أحد "زيد الأسدُ" على معنى "كالأسد"، وعلى تقدير التسليمِ فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء أي: إن الفعل يطلب مصدراً مشبَّهاً فصار مدلولاً عليه. وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم، نقله مكي، فلمَّا حُذِفت "في" انتصبَ، وهذا لا معنىٰ له.
قوله: { لَقُضِي }/ قرأ ابن عامر "لقضىٰ" بفتح الفاء والعين مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، "أجلهم" نصباً. والباقون "لقُضِيَ" بالضم والكسر مبنياً للمفعول، "أَجَلُهم" رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ الأعمش "لقَضَيْنا" مسنداً لضمير المعظِّم نفسَه، وهي مؤيدةٌ لقراءةِ ابن عامر.
قوله: { فَنَذَرُ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على قوله { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ } على معنىٰ أنه في قوة النفي، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سؤال الزمخشري وجوابِه فيه. إلا أن أبا البقاء ردَّ عطفه على "يُعَجِّل" فقال: "ولا يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على "يُعَجِّل" إذ لو كان كذلك لدَخَلَ في الامتناع الذي تقتضيه "لو" وليس كذلك، لأنَّ التعجيلَ لم يقع، وتَرْكَهم في طغيانهم وقع". قلت: إنما يَتمُّ هذا الردُّ لو كان معطوفاً على "يُعَجِّل" فقط باقياً على معناه، وقد تقدَّم أن الكلامَ صار في قوةِ { لا نعجِّل لهم الشرَّ فَنَذَرُهم } فيكون "فَنَذَرُهم" معطوفاً على جملة النفي لا على الفعلِ الممتنع وحدَه حتى يلزمَ ما قال. والثاني: أنه معطوفٌ على جملةٍ مقدرة: "ولكن نُمْهِلُهم فَنَذَرُ" قاله أبو البقاء. والثالث: أن تكون جملةً مستأنفةً، أي: فنحن نَذَرُ الذين. قاله الحوفي.