خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
٢٨
-يونس

الدر المصون

قوله تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ }: "يوم" منصوب بفعلٍ مقدر، أي: خَوِّفْهم، أو ذكِّرْهم يوم. والضميرُ عائد على الفريقين، أي: الذين أحسنوا والذين كسبوا. و "جميعاً" حال. ويجوز أن تكون تأكيداً عند مَنْ عَدَّها مِنْ ألفاظ التأكيد.
قوله: { مَكَانَكُمْ }، "مكانكم" اسمُ فعل، ففسَّره النحويون بـ"اثبتوا" فيحمل ضميراً، ولذلك أُكِّد بقوله: "أنتم" وعُطِف عليه "شركاؤكم"، ومثله قول الشاعر:

2590 ـ وقَوْلِي كلما جَشَأَتْ وجاشَتْ مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتريحي

أي: اثبتي، ويدلُّ على جزمُ جوابِه وهو "تُحْمَدي". وفسَّره الزمخشري بـ"الزموا" قال: "مكانكم" أي: الزموا مكانكم، ولا تَبْرحوا حتى تنظروا ما يُفْعل بكم". قال الشيخ: "وتقديره له بـ"الزموا" ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنه، فإنَّ اسمَ الفعلِ يُعامل معاملةَ مسمَّاه، ولذلك لمَّا قدَّروا "عليك" بمعنى "الزم" عدَّوْه تعديتَه نحو: عليك زيداً. و [عند] الحوفي "مكانكم" نُصب بإضمار فعل، أي: الزموا مكانكم أو اثبتوا". قلت: فالزمخشري قد سُبِق بهذا التفسير. والعذرُ لمَنْ فسَّره بذلك أنه قصد تفسير المعنى، وكذلك فَسَّره أبو البقاء فقال: "مكانكم" ظرفٌ مبنيٌّ لوقوعِه موقعَ الأمر، أي: الزموا".
وهذا الذي ذكره مِنْ كونه مبنياً فيه خلاف للنحويين: منهم مَنْ ذهب إلى ما ذَكَر، ومنهم مَنْ ذهب إلى أنها حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيَّان على خلافٍ في أسماء الأفعال: هل لها محلٌّ من الإِعراب أو لا؟، فإن قلنا لها محلٌّ كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا: لا موضع لها كانت حركاتِ بناء. وأمَّا تقديرُه بـ"الزموا" فقد تقدَّم جوابه.
وقوله: { أَنتُمْ } فيه وجهان أحدهما: أنه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرفِ لقيامِه مقامَ الفاعلِ كما تقدَّم التنبيه عليه. والثاني: أجازه ابن عطية، وهو أن يكونَ مبتدأً، و "شركاؤكم" معطوف عليه، وخبرُه محذوفٌ قال: "تقديرُه: أنتم وشركاؤكم مُهاون أو مُعَذَّبون"، وعلى هذا فيُوقَفُ على قوله: "مكانكم" ثم يُبتدأ بقوله: "أنتم"، وهذا لا يَنْبغي أن يقال، لأن فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام وتبتيراً لنظمه من غير داعيةٍ إلى ذلك، ولأن قراءةَ مَنْ قرأ "وشركاءَكم" نصباً تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلا من الوجه الأول، ولقولِه: "فزيَّلْنا بينهم"، فهذا يدلُّ على أنهم أُمِروا هم وشركاؤهم بالثبات في مكانٍ واحدٍ حتى يحصلَ التَّزْيِِيْلُ بينهم.
وقال ابن عطية أيضاً: "ويجوزُ أن يكون "أنتم" تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو "قفوا" ونحوه". قال الشيخ "وهذا ليس بجيدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمُه على الظرف، إذ الظرفُ لم يتحمَّلْ ضميراً على هذا القول فيلزمُ تأخيرُه [عنه] وهو غير جائز، لا تقول: "أنت مكانَك" ولا يُحْفظ من كلامهم. والأصحُّ أنه لا يجوز حَذْفُ المؤكَّد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيدَ ينافي الحذف، وليس من كلامهم: "أنت زيداً" لمَنْ رأيته قد شَهَرَ سَيْفاً، وأنت تريد: "اضرب أنت زيداً" إنما كلامُ العرب: "زيداً" تريد: اضرب زيداً". قلت: لم يَعْنِ ابنُ عطية أن "أنت" تأكيد لذلك الضمير في "قفوا" من/ حيث إنَّ الفعلَ مرادٌ غير منوبٍ عنه، بل لأنه نابَ عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصلِ قبل النيابة عنه بالظرف، وإنما قال: الذي هو "قفوا" تفسيراً للمعنىٰ المقدر.
وقرأ فرقةُ "وشكركاءَكم" نصباً على المعية. والناصبُ له اسم الفعل.
قوله: { فَزَيَّلْنَا }، أي: فرَّقْنا وميَّزْنا كقوله تعالىٰ:
{ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا } [الفتح: 25]. واختلفوا في "زيَّل" هل وزنُه فَعَّل أو فَيْعَل؟ والظاهرُ الأول، والتضعيفُ فيه للتكثيرِ لا للتعديةِ لأنَّ ثلاثيَّه متعدٍّ بنفسِه. حكى الفراء "زِلْتُ الضَّأن من المَعِز فلم تَزِل"، ويقال: زِلْت الشيء مِنْ مكانه أَزيله، وهو على هذا من ذواتِ الياء. والثاني: أنه فَيْعَل كبَيْطَر وبَيْقَر وهو مِنْ زال يَزُول، والأصل: زَيْوَلْنا فاجتمعت الياء والواو وسَبَقَت إحداهما بالسكون فأُعِلَّت الإِعلالَ المشهورَ وهو قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياء فيها كميِّت وسَيّد في مَيْوِت وسَيْودِ، وعلى هذا فهو من مادة الواو. وإلى هذا ذهبَ ابن قتيبة، وتبعه أبو البقاء.
وقال مكي: "ولا يجوز أن يكون فَعَّلْنا مِنْ زال يزول لأنه [يلزم] فيه الواوُ فيكون زَوَّلنا"، قلت: هذا صحيحٌ، وقد تقدم تحريرُ ذلك في قوله:
{ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } [الأنفال: 16]. وقد ردَّ الشيخ كونَه فيْعَل بأنَّ فعَّل أكثر من فَيْعَل، ولأن مصدره التزييل، ولو كان فَيْعَل لكان مصدرُه فَيْعَلة كبَيْطَرة؛ لأن فَيْعَل ملحقٌ بفَعْلَل، ولقولهم في معناه زايَل، ولم يقولوا: زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط". وحكى الفراء"فزايَلْنا" وبها قرأت فرقة. قال الزمخشري: "مثل صاعَرَ خَدَّه وصَعَّره، وكالمتُه وكلَّمْته"، قلت: يعني أن فاعَل بمعنى فَعَّل. وزايَلَ بمعنى فارَقَ. قال:

2591 ـ وقال العَذَارَىٰ إنَّما أنت عَمُّنا وكان الشبابُ كالخليطِ نُزايِلُهْ

وقال آخر:

2592 ـ لعَمْري لَمَوْتٌ لا عقوبةَ بعده لِذي البَثِّ أَشْفَى مِنْ هوىً لا يُزايلُهْ

وقوله: { فَزَيَّلْنَا } و "قال" هذان الفعلان ماضيان لفظاً مستقبلان معنىً لعطفِهما على مستقبل وهو "ويوم نحشرهم" وهما نظيرُ قولِه تعالىٰ: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ } [هود: 98]. و "إيَّانا" مفعولٌ مقدمٌ قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التقديمِ على ناصبِه لأنه ضميرٌ منفصل لو تأخر عنه لَزِمَ اتصالُه.