خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ
١٠
-الرعد

الدر المصون

قوله تعالى: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ }: في "سواءٌ" وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ مقدَّمٌ، و { مَّنْ أَسَرَّ } و { وَمَنْ جَهَرَ } هو المبتدأ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ، و "منكم" على هذا حالٌ من الضمير المستتر في "سواءٌ" لأنه بمعنى "مُسْتَوٍ". قال أبو البقاء: "ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً من الضمير في "أَسَرَّ" أو "جَهَرَ" لوجهين، أحدُهما: تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف، والثاني: تقديمُ الخبرِ على "منكم"، وحقُّه أن يقعَ بعده". قلت: [قوله] "وحقُّه أن يقع بعده" يعني بعده وبعد المبتدأ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له.
والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله "مِنْكم" وأَعْرَبَ سيبويه "سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ" كذلك. وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة، غَلَطٌ عليه.
قوله: { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على "مُسْتَخْفٍ"، ويُرادُ بـ "مَنْ" حينئذٍ اثنان، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ "هو" على لفظِها فأفرده، والخبرَ على معناها فثَنَّاه. الوجه الثاني: أن يكونَ عطفاً على "{ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه. ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري. قالرحمه الله : "فإنْ قلت: كان حقُّ العبارة أن يُقال: "ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ، وإلاَّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ. قلت: فيه وجهان، أحدٌهما: أنَّ قولَه "وساربٌ" عطفٌ على { مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على "مُسْتَخْفٍ". والثاني: أنه عَطْفٌ على "مُسْتَخْفٍ"، إلا أنَّ "مَنْ" في معنى الاثنين، كقوله:

2843- ...................... نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ

كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: { مُسْتَخْفٍ بِٱلْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَار }. قلت: وفي عبارتِه بقوله "كان حقُّ العبارةِ كذا" سوءُ أدب. وقوله: كقولِه "نَكُنْ مثلَ مَنْ" يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه:

تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان

وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط، وهو مقصودُه. وقوله: "وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ" لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ.
الثالث: أن يكونَ على حذف "مَنْ" الموصولة، أي: ومَنْ هو سارِبٌ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك.
والسَّارِب: اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ، أي: تَصَرَّف كيف شاء. قال:

2844- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ

وقال آخر:

2845- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ

أي: متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة.