خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
٢٩
-الكهف

الدر المصون

قوله: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ }: يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، أي: القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ. الثاني" أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحقُّ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ، إلاَّ أنَّ الفعلَ لا يُضمر إلا في مواضعَ تقدَّم التنبيهُ عليها، منها: أَنْ يُجَابَ به استفهامٌ، أو يُرَدَّ به نفيٌ، أو يقعَ فعل مبنيّ للمفعول، لا يَصْلُح إسنادُه لما بعده كقراءة { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ } كما سيأتي إنْ شاء الله تحقيقُه في موضعِه. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ بعده.
وقرأ أبو السَّمَّال قعنب: "وقُلُ الحقَّ" بضمِّ اللامِ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركةِ القاف. وقرأ أيضاً بنصب "الحقَّ". قال صاحب "اللوامح": "هو على صفةِ المصدرِ المقدَّر؛ لأن الفعلَ يَدُلُّ على مصدره وإن لم يُذْكَرْ، فتنصِبُه معرفةً كما تنصِبُه نكرةً، وتقديرُه: وقل القولَ الحقَّ وتُعَلَّقُ "مِنْ" بمضمرٍ على ذلك. أي: جاء مِنْ ربكم" انتهى.
وقرأ الحسن والثقفي بكسرِ لامَيْ الأمرِ في قوله: "فَلْيُؤْمِنْ"، و"فَلْيَكْفُرْ" وهو الأصل.
قوله: { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } يجوز في "مَنْ" أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهِه بالشرط. وفاعلُ "شاء" الظاهرُ أنه ضميرٌ يعود على "مَنْ". وقيل: ضميرٌ يعودُ على الله، وبه فَسَّر ابنُ عباس، والجمهورُ على خلافِه.
قوله: { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } في محلِّ نصبٍ صفةً لـ"ناراً". والسَّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ كالمَضْرِب والخِباء. وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادِق. قاله الهَرَوِيُّ. وقيل: هو الحُجْرَةُ تكونُ حول الفُسْطاط. وقيل: هو ما يُمَدُّ على صحنِ الدار. وقيل: كلُّ بيتٍ من كُرْسُفِ فهو سُرادِق، قال رؤبة:

3146- يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدودْ

ويُقال: بيت مُسَرْدَق. قال الشاعر:

3147- هو المُدْخِلُ النُّعْمانَ بيتاً سماؤُه صدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسَرْدَقِ

وكان أبرويز ملكُ الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أَرْجُلِ الفِيلة. والفُيول: جمع فِيل. وقيل: السُّرادق: الدِّهليز. قال الفرزدق:

3148- تَمَنَّيْتَهم حتى إذا ما لَقِيْتَهُمْ تركْتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرادقا

والسُّرادق: فارسيٌّ معرَّبٌ أصله: سرادَة، قاله الجواليقي، وقال الراغب: "فارسيٌّ معرَّبٌ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردٌ، ثالثُ حروفِه ألفٌ بعدها حرفان".
قوله: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ }، أي: يَطْلُبوا العَوْنَ. والياءُ عن واوٍ، إذ الأصل: يستَغْوِثوا، فقُلبت الواو ياءً لتصريفٍ ذُكِر في الفاتحة عند قوله:
{ { نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]، وهذا الكلامُ من المشاكلةِ والتجانُسِ، وإلا فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم كقولِه:

3149- ....................... ........ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ

[وكقولِه]:

3150- ....................... تَحِيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجيعُ

وهو كثير.
و"كالمُهْلِ" صفةٌ لـ"ماء". والمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أُذِيْب من الجواهر كالنُّحاس والرصاص. والمَهَل بفتحتين: التُّؤَدَة والوَقار. قال:
{ { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ } [الطارق: 17].
قوله: { يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ثانيةً، أن تكونَ حالاً مِنْ "ماء" لأنه تخصَّصَ بالوصف، ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الجارِّ وهو الكاف.
والشَّيُّ: الإِنضاجُ بالنارِ من غيرِ مَرَقَةٍ تكون مع ذلك الشيءِ المَشْوِيَّ.
قوله: { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } المخصوصُ محذوفٌ تقديره: هو، أي: ذلك الماءُ المستغاثُ به.
قوله: { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } "ساءَتْ" هنا متصرفةٌ على بابها. وفاعلُها ضميرُ النار. ومُرْتَفَقَا تمييز منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء وقَبُحَ مُرْتَفَقُها. والمُرْتَفَقُ: المُتَّكأ. وقيل: المنزل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى الارتفاق، وهو من بابِ المقابلة أيضاً كقوله في وصفِ الجنة بعدُ:
{ { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف: 31]، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أَنْ يكون من قوله:

3151- إني أَرِقْتُ فَبِتُّ الليلَ مُرْتَفِقا كأنَّ عَيْنِيَ فيها الصابُ مَذْبوحُ

يعني من باب التهكُّم.