قوله تعالى: { مَن يَتَّخِذُ }: "مَنْ" في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وخبرُه الجارُّ قبلَه، ويجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكون موصولةً. الثاني: أن تكونَ موصوفةً، فعلى الأولِ لا محلَّ للجملةِ بعدها، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ، أي: فريقٌ أو شخصٌ متَّخِذٌ؛ وأَفْرَدَ الضميرَ في "يتَّخذ" حَمْلاً على لفظِ "مَنْ".
قوله: { مِن دُونِ ٱللَّهِ } متعلِّقٌ بيتَّخذ. والمرادُ بدون هنا: غَيْر، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى "غير" مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت: "اتخذتُ من دونِك صديقاً" أصلُه: اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً، فهو ظرفٌ مجازيٌّ. وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونَ غيراً لأنه ليس إياه، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ. و "يتَّخِذُ" يَفْتَعِلُ من الأخْذِ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو: أَنْداداً". وقد تقدَّم الكلامُ على "أنداداً أيضاً واشتقاقه.
قوله: { يُحِبُّونَهُمْ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ"مَنْ" في أحدِ وجهَيْها، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في "يتَّخِذُ". والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم، والمرادُ بهم الأصنامُ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيرهم، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في "يَتَّخِذ"، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في "يتَّخِذُ"، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم.
قوله: { كَحُبِّ ٱللَّهِ } الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: يُحِبُّونهم حباً كحُبِّ اللَّهِ، وإمَّا على الحالِ من المصدرِ المعرَّفِ كما تقدَّمَ تقريرُه غيرَ مرةٍ. والحُبُّ: إرادةُ ما تراه وتظنه خيراً، وأصلهُ من حَبَبْتُ فلاناً: أصبْتُ حبة قلبِه نحو: كَبِدْتُه. وأَحْبَبْتُه: جَعَلْتُ قلبي مُعَرَّضاً بأن يحبَّه، لكن أكثر الاستعمالِ أن يُقال: أَحْبَبْتُه فهو محبوب، ومُحَبّ قليلٌ كقوله:
799 ـ ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصلِ مصدرُ حَبَّه، وكان قياسُه فتحَ الحاءِ، ومضارِعُه يَحُبُّ بالضم وهو قياسُ فِعْل المضعَّف وشَذَّ كسرُه، ومحبوب أكثر من مُحَبّ، ومُحِبّ أكثر من حابّ، وقد جُمِع الحبُّ لاختلافِ أنواعِه، وقال:
800 - ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ
والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصوبه والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كحبِّهم الله أو كحبِّ المؤمنين الله، بمعنى أنهم سَوَّوا بين الحُبَّين: حبِّ الأندادِ وحُبِّ اللهِ.
وقال ابن عطية: "حُبّ" مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه: كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ". انتهى، وقوله "للفاعل المضمر" يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو: "كُمْ" أو "هِمْ"، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف أضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ، ولا يريد أن الفاعلَ مضمرٌ في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعالِ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضِهم، مردودٌ بأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ؛ واسمُ الجنسِ لا يُضْمَرُ فيه لجمودِه.
وقال الزمخشري: "كحُبِّ اللهِ: كتعظيمِ اللهِ، والخُضوعُ له، أي: كما يُحَبُّ اللهُ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ". انتهى. أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ: أعني الجوازَ مطلقاً. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ. والثالث: التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو: عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في "حُبّ" أن يُبْنى للمفعولِ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن" برفعِ "ذو" عطفاً على محلّ "الأبتر" لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي: أن يُقْتَلَ الأبترُ. ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا.
وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم، وقال: "ليس بشيء"، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ }، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين، أي: يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ". وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ الكفار لأوثانهم وبين محبةِ المؤمنين لله ينافي قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } فإنَّ فيه نفيَ المساواةِ.
وقرأ أبو رجاء: "يَحُبُّونهم" من "حَبَّ" ثلاثياً، و "أَحَبَّ" أكثرُ، وفي المثل: "مَنْ حَبَّ طَبَّ".
قولُه: { أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } المفضلُ عليه محذوفٌ، وهم المتخذون الأنداد، أي: أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم، وقال أبو البقاء: "ما يتعلَّقُ به "أشدّ" محذوفٌ تقديرُه: "أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ" والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم. ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره. وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَل التفضيل من مادة الحب لأن "حُبَّ" مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه. فأمَّا قولُهم: "ما أحبَّه إلي" فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين. و "حباً" تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه: حُبُّهم للهِ أشَدُّ.
قوله: { وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ } جوابُ لو محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديره، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة: قرأ ابنُ عامر ونافع: "ولو ترى" بتاءِ الخطابِ، و "أن القوة" و "أن الله بفتحِهما، وقرأ ابنُ عامر: "إذ يُرَوْن" بضم الياء، والباقون بفتحِهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون: "ولو يرى" بياء الغيبة، "أنَّ القوة" و "أنَّ الله" بفتحِهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر: "ولو تَرَى" بالخطاب، "إن القوة" و "إن الله" بكسرهما، وقرأت طائفةٌ: "ولو يرى" بياء الغيبة، "إن القوة" و "إن الله" بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه: "أن القوة" ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه: "وأنَّ الله شديدُ العذابِ"/ وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد. أمَّا مَنْ قَدَّره قبل "أنَّ القوةَ" فيكونُ "أنَّ القوةَ" معمولاً لذلك الجوابِ. وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ: لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً، والمرادُ بهذا الخطابِ: إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ. وعلى قراءةِ الكسرِ في "إنّ" يكونُ التقديرُ: لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم، أو يكونُ التقديرُ: لاستعظَمت حالَهم، وإنما كُسِرَتْ "إنَّ" لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان، فقولك: أنه مكرِمٌ للضِّيفان" عِلَّةٌ لقولِك "أَحْسَنَ إليك".
وقال ابنُ عطية: "تقديرُه: ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً" وناقشه الشيخ فقال: "كان ينبغي أن يقولَ: في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف "إذ" وهو الوقتُ لا الحالُ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ "لو" غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي "لو"، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً، وهو نظيرُ قولِك: "يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه" فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد" انتهى. وتقديرُه على قراءةِ "يرى" بالغيبة: لعلموا أنَّ القوةَ، إنْ كان فاعل "يرى"الذين ظلموا"، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ: لَعَلِمَ أنَّ القوة.
وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه: شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة "ترى" بالخطابِ: لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم، ويكونُ فتحُ "أنَّ" على أنه مفعولٌ من أجلِه، أي: لأنَّ القوةَ لله جميعاً، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو: "أكرِمْ زيداً إنه عالم، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ"، أو تكونُ جملةً معترضةً بين "لو" وجوابِها المحذوفِ. وتقديرُه على قراءةِ "ولو يرى" بالغيبة إن كان فاعلُ "يرى" ضميرَ السامعِ: لاستعظَمَ ذلك، وإنْ كان فاعلُه "الذين" كان التقديرُ: لاستعظَموا ما حَلَّ بهم، ويكونُ فتحُ "أنَّ" على أنها معمولةٌ ليرى، على أن يكونَ الفاعلُ "الذين ظلموا"، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ "أنَّ" مسدَّ مفعولهما، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ.
وأمَّا قراءةُ "يرى الذين" بالغَيبة وكسرِ "إنَّ" و "إنَّ" فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي: لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه "الذين": لقالوا: ويكونُ مفعولُ "يرى" محذوفاً أي: لو يرى حالهم. ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ: لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين، وإنما كُسِرتا استئنافاً، وحَذْفُ جوابِ "لو" شائعٌ مستفيضٌ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن. وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً. قال امرؤ القيس:
801 ـ وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
وقال النابغة:
802 ـ فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ
ودَخَلَتْ "إذ" وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناءِ هذه المستقبلات تقريباً للأمر، وتصحيحاً لوقوعِه، كما وَقَعَتْ صيغة المضيِّ موقعَ المستقبل لذلك كقولِهِ: { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 44] { { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [الأعراف: 50]، وكما قال الأشتر:
803 ـ بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ
إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
فأوقع "بَقَّيْتُ" و "انحَرَفْتُ" - وهما بصيغة المضيِّ - موقِعَ المستقبلِ لتعليقهما على مستقبلٍ وهو قولُه: "إنْ لم أشُنَّ". وقيل: أَوْقَعَ "إذ" موقع "إذا" وقيل: زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ.
وقراءةُ ابنِ عامر "يُرَوْنَ العذاب" مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو، والثاني هو "العذابُ"، وقراءةُ الباقين واضحةٌ.
وقال الراغبُ: "قوله": "أنَّ القوة" بدلٌ من "الذين" قال: "وهو ضعيفٌ" قال الشيخ: "ويصيرُ المعنى: ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا". وقال في "المنتخب": "قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء"، قال: "لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم" وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان.
قوله: { جَمِيعاً } حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً، لأنَّ تقديره: "أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً"، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها، و "أنَّ" لا تعملُ في الحال، وهو مُشْكلٌ، فإنَّهم أجازوا في "ليت" أن تعمل في الحال، وكذا "كأنَّ" لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في "أنَّ" لِما فيها من معنى التأكيد. و "جميع" في الأصل: فَعِيل من الجَمْعِ، وكأنه اسمُ جمعٍ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد، قال تعالى: { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [القمر: 44]، وتارةً بالجمعِ، قال تعالى: { جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس: 32]، ويَنْتَصِبُ حالاً، ويؤكد به بمعنى "كل"، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ "كل"، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان، تقول: "جاء القومُ جميعُهم" لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين "جاؤوا معاً".