قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ}: "سَعَى" جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو "يُعْجِبُكَ" فتكون: إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في "مَنْ"، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ: "ألدُّ الخصام".
والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي: تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ، ومنه: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39] وقال امرؤُ القيس:
897 ـ فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ
ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي
وقال آخر:
898 ـ أسعى على حَيِّ بني مالِكِ كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي
والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلاَّءِ، قال:
899 ـ ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
قوله: {فِي ٱلأَرْضِ} "متعلِّقٌ بـ"سَعَىَ"، فإنْ قيل: معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلاَّ في الأرضِ قيل: لأنه يُفيدُ العمومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ، و "ليفسِدَ" متعلقٌ بـ"سعى" علةً له.
قوله: {وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ} الجمهورُ على: "يُهْلِكَ" بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ. "الحَرْثَ" مفعولٌ به، وهي قراءةٌ واضحةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى: { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة: 98] فإنَّ قولَه: "ليفسدَ" يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ، فخصَّهُما بالذكر لذلك. وقرأ أُبيّ: "وليُهْلِكَ" بإظهارِ لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو - "وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ" بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي، و"الحرث" فاعل، و "النسلُ" عطفٌ عليه. وقرأ قوم: "ويُهْلِكُ الحرثَ" من أَهْلَكَ، و "الحرث" مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ. وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ: أن تكونَ عطفاً على "يُعْجِبُك" أو على "سَعَى" لأنه في معنى المستقبل، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي: وهو يُهْلِكُ، أو على الاستئنافِ. وقرأ الحسن: "ويُهْلَكَ" مبنياً للمفعول، "الحَرْثُ" رفعاً، وقرأ أيضاً: "ويَهَلَكُ" بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ، "الحرثُ" رفعاً على الفاعلية، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتحِ فيهما. و "ألحَرثُ" تقدَّم.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي: خَرَجَ بسرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي: خَرَجَ وتطايَرَ، وقيل: النسلُ الخروجُ متتابعاً، ومنه: "نُسالُ الطائر" ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ، قال امرؤُ القيس:
900 ـ وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وقوله: { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [الأنبياء: 96] يحتمِلُ المعنيين. و "الحرثَ والنسلَ" وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به.