خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ }.. الآية { مِنَ ٱلنَّاسِ } خبر مقدم و "من يقول" مبتدأ مؤخر، و "مَنْ" تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي: الذي يقول أو فريقٌ يقول: فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً، قال: لأن "الذي" يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإِبهام" انتهى. وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أُبَيّ ورهطِه. وقال الأستاذ الزمخشري: "إن كانَتْ أل للجنس كانت "مَنْ" نكرةً موصوفة كقوله: { { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ } [الأحزاب: 23]، وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً"، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ للعهد، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ "مَنْ" موصولةً، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/. وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا في موضعٍ تختص به النكرةُ، كقوله:

158ـ رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ

وهذا الذي قاله هو الأكثر: إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة، قال:

159ـ فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا ............................

و "مَنْ" تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً، وهل تقع نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة:

160ـ يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ

ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص: إمَّا على المبالغة أو على حذف مضاف.
و "مِنْ" في "مِنَ الناس" للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها. و "الناس" اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه، ويرادفُهُ "أناسِيٌّ" جمع إنسان أو إِنْسِيّ، وهو حقيقةٌ في الآدميين، ويُطْلق على الجن مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ ونون وسين والأصل: أناس اشتقاقاً من الأنس، قال:

161ـ وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ

لأنه أَنِس بحواء، وقيل: بل أَنس بربه، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً، يدلُّ على ذلك قوله:

162ـ إنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ ـنَ على الأُناس الآمنينا

وقال آخر:

163ـ وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ

وقال آخر:

164ـ وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ

وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والأصلُ: نَوَسَ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، والنَّوْس والحركةُ. وذهب بعضُهم إلى أنه من نون وسين وياء، والأصل: نَسِي، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قُلبت الياء ألفاً لما تقدم في نوس، قال: سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه الإِنسان لنسيانه، قال:

165ـ فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس

ومثله:

166ـ لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي

فوزنُه على القول الأول: عال، وعلى الثاني، فَعَل، وعلى الثالث: فَلَع بالقلب.
و "يقول": فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على "مَنْ"، والقولُ حقيقةً: اللفظُ الموضوعُ لمعنىً، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإِسناديةِ وعلى الكلام النفساني أيضاً، قال تعالى:
{ { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [المجادلة: 8]، وتراكيبه الستة وهي: القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ، وإنْ اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ. والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو: "قُلْتُ خطبةً"، وتُحْكىٰ بعده الجملُ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو، كقوله:

167ـ متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما

وبغير شرط عندهم كقوله:

168ـ قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا

و "آمَنَّا": فعلٌ وفاعلٌ، و "بالله" متعلقٌ به، والجملةُ في محلِّ نصب بالقول، وكُرِّرَت الباءُ في قوله "وباليومِ" للمعنى المتقدِّم في قوله: { { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ } [البقرة: 7]، وقد سأل سائل فقال: الخبرُ لا بد وأن يفيدَ غيرَ ما أفاده المبتدأ، ومعلومٌ أن الذي يقولَ كذا هو من الناس لا من غيرهم. واُجيب عن ذلك: بأن هذا تفصيلٌ معنويٌّ لأنه تقدَّم ذِكْرُ المؤمنين، ثم ذِكْرُ الكافرين، ثم عَقَّبَ بذِكْر المنافقين، فصار نَظيرَ التفصيلِ اللفظي، نحو قوله: { { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ } [البقرة: 204] { { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي } [لقمان: 6] فهو في قوةِ تفصيلِ الناسِ إلى مؤمنٍ وكافرٍ ومنافقٍ، وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقالَ: إن الخبرَ أفادَ التبعيضَ المقصودَ لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك. وهم غيرُ مؤمنين فصارَ التقديرُ: وبعضُ الناسِ كَيْتَ وكَيْتَ.
واعلم أن "مَنْ" وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ، فإن أريد بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى، فتقول: "جاء مَنْ قام وقعدوا" والآيةُ الكريمة كذلك، روعي اللفظُ أولاً فقيل: "مَنْ يقول"، والمعنى ثانياً في "آمَنَّا"، وقال ابن عطية: "حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ الجمعِ في الرتبة، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ، لو قلت: ومن الناس مَنْ يقومون ويتكلم لم يَجُز". وفي عبارة القاضي ابن عطية نظرٌ، وذلك لأنه منع من مراعاة [اللفظ بعد مراعاة] المعنى، وذلك جائزٌ، إلا أنَّ مراعاةَ اللفظ أولاً أَوْلى، ومِمَّا يَرُدُّ عليه قولُ الشاعر:

169ـ لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي

وقال تعالى: { { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ } [التغابن: 9] إلى أن قال: "خالدين" فراعى المعنى، ثم قال: { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } فراعى اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى وكذا راعى المعنى في قوله: "أو يَستكينون" ثم راعى اللفظَ في "إذا كافحته". وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها، أعني مِنْ كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية/ أمَّا إذا كانَتْ موصوفةً فقال الشيخ: "ليس في مَحْفوظي من كلام العرب مراعاةُ المعنى" يعني تقول: مررت بمَنْ محسنون لك.
و "الآخِر" صفةٌ لليوم، وهو مقابِلُ الأولِ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات المحدودة.
و { مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ما نافية، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ "هم" اسمَها، وبمؤمنين خبرَها، والباء زائدةٌ تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ، فلا تعملَ شيئاً، فيكونُ "هم" مبتدأ و "بمؤمنين" الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ لا تُزاد في خبر "ما" إلا إذا كانَتْ عاملةَ، وهذا مردودٌ بقول الفرزدق، وهو تميمي:

170ـ لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ

إلا أنَّ المختارَ في "ما" أن تكونَ حجازِيةً، لأنه لمَّا سقطت الباءُ صَرَّح بالنصب قال الله تعالى: { { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [المجادلة: 2] { { مَا هَـٰذَا بَشَراً } [يوسف: 31] وأكثرُ لغةِ الحجاز زيادةُ الباء في خبرها، حتى زعم بعضُهم أنه لم يَحْفَظِ النصبَ في غير القرآن إلا في قول الشاعر:

171ـ وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها

أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ حَنِقُو الصدورِ وما هُمُ أولادَها

وأتى بالضمير في قوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } جمعاً اعتباراً بمعنى "مَنْ" كما تقدم في قولِه "آمنَّا". فإنْ قيل: لِمَ أتى بخبر "ما" اسمَ فاعل غيرَ مقيَّدٍ بزمان ولم يُؤْتَ بعدها بجملةٍ فعلية حتى يطابقَ قولَهم "آمنَّا" فيقال: وما آمنوا؟ فالجوابُ: أنه عَدَلَ عن ذلك ليفيدَ أنَّ الإِيمانَ منتفٍ عنهم في جميعِ الأوقات فلو أُتِيَ به مطابقاً لقولهم "آمنَّا" فقال: وما آمنوا لكان يكونُ نفياً للإِيمان في الزمن الماضي فقط، والمرادُ النفيُ مطلقاً، أي: إنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإِيمان في وقتٍ من الأوقات.