خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى
٥٢
-طه

الدر المصون

قوله: { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر هذا المبتدأ أوجهٌ، أحدها: أنه "عند ربي" وعلى هذا فقولُه "في كتاب" متعلقٌ بما تعلق به الظرفُ من الاستقرار، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضمير المستتر في الظرف، أو خبرٌ ثان.
الثاني: أنَّ الخبرَ قولُه "في كتاب" فعلى هذا قولُه "عند ربي" معمولٌ للاستقرار الذي تعلَّق به "في كتاب" كا تقدَّم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً. وفيه خلاف أعني تقديمَ الحالِ على عاملها المعنوي. والأخفش يجيزه ويستدلُّ بقراءة { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] وقوله:

3294ـ رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهمْ فيهم ورَهْطُ رَبيعةَ بنِ حُذارِ

وقال بعَضُ النحويين: إنه إذا كان العاملُ معنوياً، والحالُ ظرفٌ أو عديلُه، حَسُن التقديمُ عند الأخفشِ وغيرِه، وهذا منه. أو يكونُ ظرفاً للعلم نفسه، أو يكونُ حالاً من المضاف إليه وهو الضمير في "عليها". ولا يجوزُ أن يكونَ "في كتاب" متعلِّقاً بـ"عِلْمها" على قولِنا إنَّ "عند ربي" الخبر كما جاز تعلُّقُ "عند" به لئلا يلزمَ الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، وقد تقدم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمامِ صلته.
الثالث: أن يكونَ الظرفُ وحرفُ الجرِّ معاً خبراً واحداً في المعنى، فيكونَ بمنزلةِ "هذا حُلْوٌ حامِض" قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ كلُّ منها يستقلُّ بفائدةِ الخبريةِ، بخلاف "هذا حلو حامِضٌ".
والضمير في "عِلْمُها" فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على القرون. والثاني: عَوْدُه على القيامةِ للدلالةِ ذِكْرِ القرون على ذلك؛ لأنه سأله عن بَعْثِ الأممِ، والبعثُ يدلُّ على القيامة.
قوله: { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً لـ"كتاب"، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: في كتاب لا يَضِلُّه ربي، أو لا يَضِلُّ حِفْظَه ربي، فـ"ربي" فاعل "يَضِلُّ" على هذا التقدير، وقيل: تقديرُه: الكتابَ ربي. فيكون في "يَضِلُّ" ضميرٌ يعود على "كتاب"، وربي منصوبٌ على التعظيمِ. وكان الأصلُ: عن ربي، فحُذِفَ الحرفُ اتِّساعاً، يُقال: ضَلَلْتُ كذا وضَلَلْتُه بفتح اللام وكسرها، لغتان مشهورتان وشُهراهما الفتحُ. الثاني: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ساقها تبارك وتعالىٰ لمجرد الإِخبارِ بذلك حكايةً عن موسى.
وقرأ الحسنُ وقتادة والجحدريُّ وعيسى الثقفي وابن محيصن وحَمَّاد بن سلمة "لا يُضِلُّ" بضم الياء أي: لا يُضِلُّ ربي الكتابَ أي: لا يُضَيِّعه يقال: أَضْلَلْتُ الشيءَ أي: أضعتُه. فـ"ربي" فاعلٌ على هذا التقدير. وقيل: تقديرُه: لا يُضِلُّ أحدٌ ربي عن علمه أي: عن علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم.
وفرَّق بعضُهم بين ضَلَلْتُ وأَضْلَلْت فقال: "ضَلَلْتُ منزلي"، بغيرِ ألفٍ، و"أَضْلَلْت بعيري" ونحوَه من الحيوان بالألفِ. نقل ذلك الرمانيُّ عن العرب، وقال الفراء: "يقال: ضَلَلْتُ الشيءَ إذا أَخطأْتَ في مكانه وضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتدِ له، كقولك: ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ولا يُقال: أَضْلَلْتُه إلاَّ إذا ضاع منك كالدَّابة انفلَتَتْ، وشبهِها.
قوله: { وَلاَ يَنسَىٰ } في فاعل "يَنْسَىٰ" قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على "ربي" أي: ولا يَنْسىٰ ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الكتاب على سبيل المجاز، كما أُسند إليه الإِحصاءُ مجازاً في قوله
{ إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] لمَّا كان مَحَلاًّ للإِحصاء.