قوله: { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ }: فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي: ثلاثةَ أوقاتٍ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله: { مِّن قَبْلِ صَـلَـٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ } { وَمِن بَعْدِ صَلَـٰوةِ ٱلْعِشَآءِ }. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ. ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/: "والظاهرُ مِنْ قوله "ثلاثَ مرات". ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ: ضربْتُ ثلاثَ مراتٍ لا تفْهَمُ منه إلاَّ ثلاثَ ضَرَبات. ويؤيِّده قولُه عليه السلام: "الاستئذانُ ثلاث" قلت: مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ. وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية "الحُلْمَ" بسكونِ العينِ وهي تميميةٌ.
قوله: { مِّن قَبْلِ صَـلَـٰوةِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قوله "ثلاث" فتكونُ في محلِّ نصبٍ. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ "عورات" فيكونُ في محلِّ جر. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي من قبلِ أي: تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ.
قوله: { مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ "مِنْ" لبيانِ الجنس أي: حين ذلك الذي هو الظهيرةُ. الثاني: أنها بمعنى "في" أي تَضَعُونها في الظهيرةِ. الثالث: أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ. وأمَّا قولُه: { وَحِينَ تَضَعُونَ } فعطفٌ على محلِّ { مِّن قَبْلِ صَـلَـٰوةِ ٱلْفَجْرِ }، وقوله: { وَمِن بَعْدِ صَلَـٰوةِ ٱلْعِشَآءِ } عطفٌ على ما قبلَه، والظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، وهو انتصافُ النهارِ.
قوله: { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } قرأ الأخَوان وأبو بكر "ثلاثَ" نصباً. والباقون رفعاً. فالأَُوْلىٰ تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله: { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ }. قال ابن عطية: "إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ: أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه"، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء. ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ. وعلى هذا الوجهِ ـ أعني وجهَ البدل ـ لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه.
الثاني: أنَّ { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء. يعني قولَه: { مِّن قَبْلِ صَـلَـٰوةِ ٱلْفَجْرِ } وما عُطِفَ عليه، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ.
الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ. فقَدَّره أبو البقاء أعني. وأَحْسَنُ من هذا التقديرِ "اتَّقوا" أو "احْذروا" ثلاثَ.
وأمَّا الثانية فـ"ثلاثُ" خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ. وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال: "أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ". قلت: وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه. قال الزمخشري: "وسَمَّىٰ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها. والعَوْرَةُ: الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ، وأَعْوَرَ المكانُ. والأَعْوَرُ: المختلُّ العينِ" فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ، مضافةً لـ"عَوْراتٍ" بخلافِ كلامِه أولاً. فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقف على ما قبلَ { ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ } لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها.
وقرأ الأعمش "عَوَرات" وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم: يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ:
3467ـ أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ
قوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل: هُنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ، بل هي كلامٌ مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب "ثلاثَ عَوْراتٍ".
قوله: { بَعْدَهُنَّ } قال أبو البقاء: "التقديرُ: بعد استئذانِهم فيهنَّ، ثم حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ، فبقي: بعد استئذانِهم، ثم حَذَفَ المصدرَ" يعني بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر. وهذا غيرُ ظاهرٍ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنىٰ: ليس عليكم جناحٌ. ولا عليهم أي: العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ، ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره.
قوله: { طَوَٰفُونَ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم طَوَّافون، و"عليكم" متعلِّقٌ به.
قوله: { بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } في "بعضُكم" ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، و"على بعض" الخبرُ، فقدَّره أبو البقاء "يَطُوْفُ على بعض". وتكونُ هذه الجملةُ بدلاً مِمَّا قبلها. ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة. يعني: أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً، أو مؤكِّدةَ. ورَدَّ الشيخ هذا: بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه. والجوابُ عنه: أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه، وهنا عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ الجارِّ مُقامَه، ولذلك قال الزمخشري: "خبرُه "على بعض"، على معنىٰ: طائف على بعض، وحُذِفَ لدلالةِ "طَوَّافون"عليه".
الثاني: أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ "طوَّافون" قاله ابن عطية. قال الشيخ: "ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ "هم" لأنَّه يصيرُ التقديرُ: هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، وهو لا يَصِحُّ. فإنْ جَعَلْتَ التقدير: أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، فيدفَعُه أنَّ قولَه "عليكم" يَدُلُّ على أنهم هم المَطُوفُ عليهم، و"أنتم طَوَّافون" يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا". قلت: نختار أنَّ التقديرَ: أنتم، ولا يلزَمُ محذورٌ. قوله: "فيدفعه إلى آخره" لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنىٰ: كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه، وإن كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ، ويكونُ "بعضُكم" بدلاً من "طَوَّافون", وقيل: "بعضُ" بدلٌ مِنْ "عليكم" بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ، ومجروراً من مجرور. ونظيرُه قولُ الشاعرِ:
3468ـ فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا
فـ"بعضُه" بدلُ من "النبعَ" المنصوب، و"ببعض" بدلٌ من المجرورِ بالباء.
الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي: يطوفُ بعضُكم على بعضٍ، حُذِفَ لدلالةِ "طَوَّافون" عليه. قاله الزمخشري.
وقرأ ابن أبي عبلة "طوَّافين" بالنصبِ على الحال من ضميرِ "عليهم".