خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
٢٤
أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
٢٥
-النمل

الدر المصون

قوله: { وَجَدتُّهَا }: هي التي بمعنى لَقِيْتُ] وأَصَبْتُ/ فتتعدَّىٰ لواحدٍ، فيكونُ "يَسْجُدون" حالاً مِنْ مفعولِها وما عُطِفَ عليه.
قوله: { أَلاَّ يَسْجُدُواْ }: قرأ الكسائيُّ بتخفيف "ألا"، والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ فـ"ألا" فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و"يا" بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و"اسْجُدوا" فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ "يا اسْجُدوا"، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ "يا" وهمزةَ الوصلِ من "اسْجُدوا" خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين "اسْجُدوا"، فصارَتْ صورتُه "يَسْجُدوا" كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.
واختلف النحويون في "يا" هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادَىٰ محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه:
{ { يٰلَيتَنِي } [الآية: 73] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترىٰ أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادَىٰ كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو "ألا". وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله:

3559ـ فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به ......................

فغيرُ العامِلَيْن أَوْلَىٰ. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله:

3560ـ فلا واللهِ لا يُلْفَىٰ لِما بي ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ

فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ "يا" لفعلِ الأمرِ وقبلَها "ألا" التي للاستفتاح كقوله:

3561ـ ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي

وقوله:

3562ـ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ

وقوله:

3563ـ ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ

وقوله:

364ـ ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ

وقوله:

3565ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري

وقوله:

3566ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ............................

وقوله:

3567ـ فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي

وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها "ألا" كقوله:

3568ـ يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ

فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ:

3569ـ يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ

فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادىٰ محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على "يَهْتَدون" تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على "ألا يا " معاً ويَبْتَدىءَ "اسْجُدوا" بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على "ألا" وحدَها، وعلى "يا" وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ، أحدها: أنَّ "ألاَّ" أصلُها: أَنْ لا، فـ"أنْ" ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و"لا" بعدها حَرفُ نفيٍ. و"أنْ" وما بعدها في موضع مفعولِ "يَهْتَدون" على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و"لا" مزيدةٌ كزيادتِها في
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد: 29]. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ "أعمالَهم" وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله. الثالث: أنه بدلٌ من "السبيل" على زيادةِ "لا" أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالىٰ. الرابع: أنَّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بـ"صَدَّهم" أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي "لا" حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنىٰ: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على "أعمالَهم" التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون "لا" على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على "السبيل". التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون "لا" مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنىٰ.
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على "يَهْتدون" لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ "زَيَّن" و"صَدَّ"، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ "أعمالَهم" أو من "السبيل" على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.
وقد كُتِبَتْ "ألاَّ" موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ "أنْ" منفصِلةً مِنْ "لا" فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على "أنْ" وحدَها لاتِّصالِها بـ"لا" في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على "ألاَّ" بجملتِها، كذا قال القُراء. والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً بـ"لا" غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها بـ"لا"، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً.
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: "فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك". فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.
قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد ـ وهو الظاهرُ ـ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يَخْفىٰ.
وقرأ الأعمشُ "هَلاَّ"، و"هَلا" بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ "لا" وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله. وقرأ عبدُ الله "تَسْجُدون" بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو: "ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث" وفي حرف عبدِ الله أيضاً: "ألا هَلْ تَسْجدُون" بالخطاب.
قوله: { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً له أو بدلاً منه أو بياناً، أو منصوبَه/ على المدحِ، ومرفوعَه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئاً أي: سَتَرْتُهُ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء. ونحُوه:
{ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [لقمان: 11]. وفي التفسير: الخَبْءُ في السماواتِ: المطرُ، وفي الأرض: النباتُ. والخابِيَةُ مِنْ هذا، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة والذُّرِّيَّة عند بعضِهم. وقرأ أُبَيٌّ وعيسى "الخَبَ" بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الباءِ، وحَذْفِ الهمزة، فيصيرُ نحوَ: رأيتُ الأَبَ. وقرأ عبد الله وعكرمةُ ومالك بن دينار "الخبا" بألفٍ صريحة. ووجْهُها: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً فلزِمَ تحريكُ الباءِ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفاً يجانِسُ حركتَها فيقول: هذا الخَبُوْ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي، ثم أُجْرِي الوصلُ مُجْرَىٰ الوقفِ. وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةِ ما قبلها، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون: المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ.
وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال: "لا يجوزُ في العربيةِ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقىٰ حركتَها على الباء، فقال: الخَبَ، وإن حَوَّلها قال: الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها" قال المبرد: "كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ، لم يَلْحَقْ بهم، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه".
قوله: { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ"الخَبْءَ" أي: المخبوءَ في السماواتِ. والثاني: أنه متعلقٌ بـ"يُخْرِجُ" على أنَّ معنى "في" معنى "مِنْ" أي: يُخْرِجُه من السماواتِ. وهو قول الفراء.
قوله: { مَا تُخْفُونَ } قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ. فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به. والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ ـ غيرَ حفصٍ ـ ظاهرةٌ أيضاً؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله: "لهم" و"أعمالهم" و"صَدَّهم" و"فهمْ". وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبَأ. ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه.
وقال ابن عطية: "القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم". وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً. وكذلك الخلافُ في قولِه { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكاً منه، لَمَّا وَصَفَ عَرْشَ بلقيسَ العظيمَ، أو من كلامِ اللهِ تعالىٰ رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها بالعظيم؟.