خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢٧
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { تُولِجُ }: كقولِهِ: "تُؤْتِي" وقد تقدَّم ما فيه، ويقال: وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً كَعِدَةً ووَلْجاً كَوَعْدٍ، واتَّلَجَ يَتَّلِجُ اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلَجَ يَوْتَلِجُ اوْتِلاَجاً، فَقُلِبَتْ الواوُ تاءً قبلَ تاءِ الافتعالِ نحو: اتَّعَدَ يَتَّعِدُ اتِّعاداً قال الشاعر:

1221ـ فإنَّ القوافِي تَتَّلِجْنَ مَوالِجاً تضايَقُ عنها أَنْ تَوَلَّجَها الإِبَرْ

والوُلوجُ: الدخولُ، والإِيلاجُ: الإِدْخال، ومعنى الآية على ذلك. وقول مَنْ قال معناه: النقص فإنما أراد أنه من باب اللازم، لأنه تبارك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ، وزعم بعضُهم أن "تُولِج" بمعنى ترفع، وأن "في" بمعنى "على" وليس بشيء.
قوله: { مِنَ ٱلْمَيِّتِ } اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتب: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكرٍ عن عاصم لفظ "المَيْت" من غير تاء تأنيث مخففاً في جميع القرآن، وسواءً وُصِفَ به الحيوانُ نحو: { تُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } أو الجمادُ نحو قوله تعالى:
{ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } } [فاطر: 9] { { لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف: 57] منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذكره إلا قولَه تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]، وقولَه: { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [الآية: 17] في إبراهيم، مما لم يَمُتْ بعدُ فإن الكلَّ ثَقَّلوه، وكذلك لفظُ "الميتة" في قوله: { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ } [يس: 33] دونَ الميتةِ المذكورةِ مع الدمِ فإنَّ تَيْكَ لم يشددها إلا بعضُ قُرَّاء الشواد، وقد تقدَّم ذكرُها في البقرة، وكذلك قولُهُ: { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [الأنعام: 139] و { بَلْدَةً مَّيْتاً } [الزخرف: 11] و { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } [الأنعام: 145] فإنها مخففات عند الجميع. وثَقَّل نافع جميعَ ذلك، والأخوان وحفص عن عاصم وافقوا ابن كثير ومَنْ معه في الأنعام في قوله: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [الآية: 122] وفي الحجرات: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } [الآية: 12]، و{ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ } في يس، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأن كُلاًّ من القراءتين صحيحٌ، وهما بمعنًى، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المعتل بحذف إحدى يائيه فيقال: هَيْن وهيِّن ولَيْن وليِّن ومَيْت ومَيِّت، ومنه قولُ الشاعر فَجَمَعَ بين اللغتين:

1222ـ ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ

وزعم بعضهم أن "مَيْتاً" بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت، وأنَّ المشدَّد يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] وهذا مردودٌ بما تقدَّم من قراءةِ الأخَوين وحفص، حيث خَفَّفوا في موضعٍ لا يمكِنُ أن يرادَ به الموتُ وهو قولُهُ: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً } [الأنعام: 122] إذا المرادُ به الكفرُ مجازاً.
هذا بالنسبة إلى القُرَّاء، وإن شئت ضَبَطْتَه باعتبار لفظ "الميت" فقلت: هذا اللفظُ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثةُ أقسام: قسمٌ لا خلاف في تثقيله وهو ما لم يَمُتْ نحو { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } و{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }، وقسمٌ لا خلافَ في تخفيفه وهو ما تقدم في قوله: { ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ } و { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } وقوله: { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } وقوله { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّم تفصيلُهُ. وقد تقدَّم أيضاً أن أصلَ ميِّت: مَيْوِت فأدغم، وأن في وزنِهِ خلافاً: هل وزنه فَيْعِل وهو مذهب البصريين أو فَعِيل وهو مذهب الكوفيين، وأصله: مَوِيت، قالوا: لأنَّ فَيْعِلاً مفقودٌ في الصحيح فالمعتلُّ أَوْلى ألاَّ يوجَد فيه. وأجاب البصريون عن قولهم بأنه لا نظير له في الصحيح بأنَّ قَضاة في جمع "قاض" لا نظير له في الصحيح. وتفسيرُ هذا الجواب أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المعتل يلزم أن يكون له نظيرٌ من الصحيح، ويدل على عدمِ التلازم: "قُضاة" جمع قاضٍ، وفي "قضاة" خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره. واعتراض البصريون عليهم بأنه لو كان وزنه فَعِيلاً لوجَبَ أن يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائره من ذواتِ الواو نحو: طَوِيل وعَوِيل وقَوِيم، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمخالَفَةِ نظائره. وهو ردٌّ حسنٌ.
قوله: { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي: ترزقه وأنت لم تحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه/. وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة: 212] فَأَغْنَى عن إعادته.
واشتملت هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع، منها: التجنيس المماثل في قوله: "مالكَ المُلْك" تُؤتي المُلَكْ،ـ وتَنْزِعُ الملك" ومنها: الطباقُ وهو الجمعُ بن متضادَّيْن أو شِبْهِهِمَا، وذلك في قوله: "تُؤْتي الملك وتَنْزِع" وفي "تُعِزُّ وتُذِلٌّ"، وفي قوله: "بيدك الخيرُ" أي: والشرُّ عند بعضهم، وفي قوله: "الليل والنهار" وفي قوله: "الحي والميت". ومنها ردُّ الأعجازِ على الصدور، والصدور على الأعجاز في قوله: { وَتُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } وفي قولِهِ: { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } ونحوُهُ: عاداتُ الساداتِ ساداتُ العاداتِ". وتضمَّنَتِ من المعاني التوكيدَ: بإيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمر في قوله: "تؤتى الملك إلخ" وفي تجوُّزِهِ بإيقاعِ الحرفِ مَكانَ ما هو بمعناه، والحذفُ لفهمِ المعنى.