خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
١٥٩
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }: "إنْ" هنا نافيةٌ بمعنى "ما" و"من أهل" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها، والتقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا واللّهِ ليؤمِنَنَّ به، فهو كقوله: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ [مَّعْلُومٌ] } [الصافات: 164]. أي: ما أحدٌ منا، وكقوله: { { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] أي: ما أحد منكم إلا ورادُها، هذا هو الظاهر، والثاني:- وبه قال الزمخشري وأبو البقاء - أنه في محلِّ الخبر، قال الزمخشري: "وجملة "ليؤمِنَنَّ به" جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإنْ من أهل / الكتابِ أحدٌ إلا ليؤمنن به، ونحوه: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] { { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] والمعنى: وما من اليهود أحدٌ إلا ليؤمن" قال الشيخ: "وهو غلطٌ فاحش، إذ زعم أن "ليؤمنن به" جملة قسيمة واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة "أحد" المحذوف إنما [هو] الجار والمجرور كما قَدَّرناه، وأمّا قوله: "ليؤمنن به" فليست صفةً لموصوف ولا هي جملة قسيمة، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ إذ لا ينتظم من "أحد" والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإِسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محطُّ الفائدة، وكذلك أيضاً الخبرُ هو "إلاَّ له مقام"، وكذلك "إلا واردها" إذ لا ينتظم مما قبل "إلا" تركيب إسنادي" وهذا - كما ترى - قد أساء العبارة في حق الزمخشري بما زعم أنه غلط وهو صحيح مستقيم، وليت شعري كيف لا ينتظم الإِسناد من "أحد" الموصوفِ بالجملة التي بعده ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول: "ما في الدار رجلٌ إلا صالحٌ" فكما أن "في الدار" خبر مقدم، و"رجل" مبتدأ مؤخر، و"إلا صالحٌ" صفته، وهو كلامٌ مفيد مستقيم، فكذلك هذا، غايةُ ما في الباب أنَّ "إلا" دَخَلَتْ على الصفة لتفيدَ الحصر. وأما ردُّه عليه حيث قال: جملةٌ قسمية، وإنما هي جوابُ القسم فلا يَحْتاج إلى الاعتذار عنه ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضات.
واللام في "ليؤمِنَنَّ" جوابُ قسمٍ محذوف كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: "ليؤمِنَنَّ جواب قسم محذوف، وقيل: أكَّد بها في غير القسم كما جاء في النفي والاستفهام" فقوله: "وقيل إلى آخره" إنما يستقيم ذلك إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطَّراد، وفي النفي على خلاف فيه، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام فلم يُعْهَد البتة. وقال أيضاً قبل ذلك: "وما مِنْ أهل الكتاب أحدٌ، وقيل: المحذوف "مَنْ" وقد مرَّ نظيره، إلا أنَّ تقديرَ "مَنْ" هنا بعيدٌ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم، و"مَنْ" الموصولة والموصوفة غيرُ تمامة" يعني أنَّ بعضَهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ "مَنْ" فيقدِّر: وإنْ مِنْ أهل مَنْ إلا ليؤمِنَنَّ، فجعل موضع "أحد" لفظَ "مَنْ" وقوله: "وقد مر نظيره" يعني قوله تعالى:
{ { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } [آل عمران: 199] ومعنى التنظير فيه أنه قد صَرَّح بلفظ "مَنْ" المقدَّرة ههنا.
وقرأ أُبَي: { ليؤمِنُنَ به قبل موتهم } بضم النون الأولى مراعاة لمعنى "أحد" المحذوف، وهو إن كان لفظه مفرداً فمعناه جمع. والضمير في "به" لعيسى. وقيل: لله تعالى، وقيل: لمحمد عليه السلام. وفي "موته" لعيسى. ويُروى في التفسير أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلُّ أحد حتى تصيرَ الملةُ كلها إسلاميةً. وقيل: يعود على "أحد" المقدر، أي: لا يموتُ كتابي حتى يؤمن بعيسى، وينقل عن ابن عباس ذلك، فقال له عكرمة: "أفرأيت إنْ خَرَّ من بيت أو احترق أو أكله سَبُعٌ" قال: لا يموتُ حتى يُحَرِّكَ بها شفتيه أي: بالإِيمان بعيسى. وقرأ الفياض بن غزوان: "وإنَّ من أهل الكتاب" بتشديد "إنَّ" وهي قراءةٌ مردودةٌ لإِشكالها. قوله: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } العامل فيه "شيهداً" وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبرِ "كان" عليها، لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِن بتقديمِ العامل. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بـ"يكون" وهذا على رَأْي مَنْ يجيز لـ "كان" أن تعمل في الظرفِ وشبهِه. والضميرُ في "يكون" لعيسى، وقيل: لمحمد عليه السلام.