خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٧٦
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { فِي ٱلْكَلاَلَةِ }: متعلق بـ"يُفْتيكم" على إعمال الثاني، وهو اختيار البصريين، ولو أَعْمل الأولَ لأضمرَ في الثاني، وله نظائرُ في القرآن: { { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [الحاقة: 19] { { آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [الكهف: 96] { { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } [المنافقون: 5] { { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } [البقرة: 39]. وقد تقدَّم الكلام فيه بأشَبع من هذا في سورة البقرة فليراجَعْ. وتقد‍َّم أيضاً اشتقاقُ الكلالة أول هذه السورة. وقوله: { إِن ٱمْرُؤٌ } كقوله: { { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ } [النساء: 128]. و"هلك" جملةٌ فعليةٌ في محلّ رفع صفة لـ"امرؤ".
و"ليس له ولدٌ" جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ثانية، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير في "هلك" ولم يذكر غيره. ومع الزمخشري أن تكونَ حالاً، ولم يبيِّنْ العلةَ في ذلك، ولا بيَّن صاحبَ الحال أيضاً: هل هو "امرؤ" أو الضمير في "هلك"؟ قال الشيخ: "ومَنَعَ الزمخشري أن يكونَ قولُه: "ليس له ولد" جملةً حالية من الضمير في "هلك" فقال: "ومحلُّ ليس له ولد الرفعُ على الصفةِ لا النصبُ على الحال" انتهى. والزمخشري لم يَقُلْ كذلك أي: لم يمنع كونَها حالاً من الضمير في "هلك"، بل منع حاليَّتَها على العموم كما هو ظاهرُ قوله، ويحتمل أنه أراد مَنْعَ حاليتها من "امرؤ" لأنه نكرةٌ، لكنَّ النكرة هنا قد تخصَّصت بالوصف، وبالجملةِ فالحالُ من النكرة أقلُّ مه من المعرفة والذي ينبغي امتناعُ حاليتها مطلقاً كما هو ظاهر عبارته، وذلك أنَّ هذه الجملةَ المفسِّرةَ للفعل المحذوف لا موضِعَ لها من الإِعراب فأشبهت الجملَ المؤكدة، وأنت إذا أتبعت أو أخبرتَ فإنما تريدُ ذلك الاسمَ المتقدِّمَ في الجملة المؤكدة السابقة لا ذلك الاسمَ المكرَر في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً، لأنَّ الجملةَ الأولى هي المقصودةُ بالحديثِ، فإذا قلت: "ضربتُ زيداً ضربت زيداً الفاضلَ" فـ"الفاضل" صفةُ "زيداً" الأول لأنه في الجملة المؤكَّدَة المقصودُ بالإِخبار، ولايَضُرُّ الفصلُ بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد، فهذا المعنى يَنْفي كونَها حالاً من الضمير في "هلك" وأما ما ينفي كونَها حالاً من "امرؤ" فلِما ذكرته لك من قلةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة. وفي هذه الآيةِ على ما اختاروه من كونِ "ليس له ولد" صفةً دليلٌ على الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال، ونظيرُه: "إنْ رجلٌ قام عاقلٌ فأكرمْه" فـ"عاقل" صفةٌ لـ"رجل" فُصِل بينهما بـ"قام" المفسِّرٍ لـ"قام المفسَّر.
وقوله: { وَلَهُ أُخْتٌ } كقوله: { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ }، والفاء في "فلها" جوابُ "إنْ" وقوله: { وَهُوَ يَرِثُهَآ } لا محلَّ لهذه الجملة من الإِعراب لاستئنافِها، وهي دالةٌ على جواب الشرط، وليست جواباً خلافاً للكوفيين وأبي زيد. وقال أبو البقاء: "وقد سَدَّتْ هذه الجملة مسدَّ جوابِ الشرط" يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم، وهذا كما يقول النحاة: إذا اجتمع شرط وقسم أُجيب سابقُهما، وجعل ذلك الجواب ساداً مسدَّ جواب الآخر. والضميران من قوله: "وهو يرثها" عائدان على لفظ امرئ وأخت دونَ معناهما، فهو من باب قوله:

1682- وكُلُّ أناسٍ قاربوا قيدَ فَحْلِهمْ ونحن خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ

وقولهم: "عندي درهمٌ ونصفه" وقوله تعالى:{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } وإنما احتيج إلى ذلك لأنَّ الحيةَ لا تُورَثُ والهالكَ لا يرثُ فالمعنى: وامرأً آخرَ غيرَ الهالك يرثُ أختاً له أخرى.
قوله: { فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ } الألفُ في "كانتا" فيها أقوال أحدُهما: أنها تعودُ على الأختين يدلُّ على ذلك قولُه: "وله أخت" أي: فإن كانتِ الأختان اثنتين. وقد جَرَتْ عادةُ النحويين أن يسألوا هنا سؤالاً وهو أنَّ الخبر لا بد أن يفيد ما لا يفيده المبتدأ، وإلاَ لم يكن كلاماً، ولذلك مَنَعوا: "سيدُ الجارية مالكُها" لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في "كانتا" وقد أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ منها: ما ذكره أبو الحسن والأخفش وهو أنَّ قولَه "اثنتين" يدلُّ على مجرد الاثنيية من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف، يعني أن الثلثين يُستَحقان بمجرد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر، فصار الكلام بذلك مفيداً". وهذا غيرُ واضحٍ لأنَّ الألفَ في "كانتا" تدل أيضاً على مجرد الاثنيية من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف، فقد رجعَ الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غيرَ ما أفاده المبتدأ. ومنها: ما ذكره مكي عن الأخفش أيضاً، وتبعه الزمخشري وغيره وهو الحَمْلُ على معنى "مَنْ" وتقريره ما ذكره الزمخشري، قالرحمه الله : "فإن قلت: إلى مَنْ يرجع ضميرُ التثنية والجمع في قوله: { فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ، وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً } قلت: أصلُه: فإن كان مَنْ يرث بالأخوَّة اثنتين، وإن كان [من] يرث بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً، وإنما قيل: "فإن كانتا، وإن كانوا" كما قيل: "مَنْ كانت امَّك" فكما أَنَّث ضميرَ "مَنْ" لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في "كانتا" و"كانوا" لمكانِ تثنية الخبر وجمعِه" / وهو جوابٌ حسن.
إلا أن الشيخَ إعترضه فقال: "هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ، وليس نظيرَ "مَنْ كانت أمَّك" لأنه قد صَرَّح بـ"مَنْ" ولها لفظ ومعنى، فمن أنَّث راعى المعنى، لأن التقدير: أيةُ أُمٍّ كانت أمكَ" ومدلول ُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلول الاسم، بخلافِ الآية فإن المدلولين واحد، ولم يؤنث في "مَنْ كانت أمك" لتأنيثِ الخبر، إنما أنث لمعنى "من" إذ أراد بها مؤنثاً ألا ترى أنك تقول "مَنْ قامت" فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردْتَ السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنَّثَ "قامت لأجلهِ" انتهى وهو تحاملٌ منه على عادته، والزمخشري وغيره لم ينكروا أنه لم يُصَرَِّح في الآية بلفظِ "مَنْ" حتى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامض، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف.
والظاهرُ أنَّ الضميرَ في "كانتا" عائدٌ على الوارثتين. و"اثنتين" خبرُه، و"له" صفةٌ محذوفة بها حَصَلت المغايرة بين الاسم والخبر، والتقدير: فإنْ كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات، وهذا جوابٌ حسن، وحَذْفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ منكرٍ، وإن كان أقلَّ من عكسه، ويجوز أن يكونَ خبرُ "كان" محذوفاً، والألفُ تعودُ على الاختين المدلولِ عليهما بقوله: "وله أخت" كما تقدَّم ذكرُه عن الأخفش وغيرِه، وحينئذ يكونُ قولُه: "اثنتين" حالاً مؤكدة، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختان له، فَحَذَفَ "له" لدلالةِ قوله: "وله أخت" عليه فهذه أربعةُ أقوال.
و"إنْ كانوا" في هذا الضمير ثلاثة أوجه أحدها: أنه عائد على المعنى "مَنْ" المقدرة تقديرُه: "فإن كان مَنْ يرث إخوة" كا تقدَّم تقريره عن الزمخشري وغيره. الثاني: أنه يعود على الإِخوة، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل، فإنَّ الإِخوة يشمل الذكورَ والإِناث، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصة فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم، وإن عاد على الوارث فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادة واضحة، وهذا هو الوجهُ الثالث. وقوله: "فللذكرِ" أي: منهم فحُذِفَ لدلالة المعنى عليه.
قوله: { أَن تَضِلُّواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أن مفعول البيان محذوفٌ، و"أن تَضِلُّوا" مفعولٌ من أجله على حَذْفِ مضاف تقديره: يبيِّن اللَّهُ أمرَ الكلالة كراهةَ أن تَضِلوا فيها، أي: في حكمها، وهذا تقديرُ المبرد. والثاني: - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين- أنَّ "لا" محذوفةٌ بعد "أن" والتقدير: لئلا تضلوا. قالوا: "وحَذْفُ "لا" شائع ذائعٌ كقوله:

1683- رأينا ما رأى البُصَراءُ فيها فآلينا عليها أَنْ تُباعَا

أي: أن لا تُباع. وقال أبو إسحاق الزجاج: "هو مثلُ قولِه تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [فاطر: 41] أي: لئلا تزولا. وقال أبو عبيد: "رَوَيْتُ للكسائي حديثَ ابن عمر وهو: "لا يَدْعُوَنَّ أحدُكم على ولدِه أن وافقَ من الله إجابةَ" فاسنحسنه أي: لئلا يوافق. ورجَّح الفارسي قولَ المبرد بأنَّ حَذْفَ المضاف أشيعُ من حذف "لا" النافية. الثالث: أنه مفعول "يبين" والمعنى: يبيِّن الله لكم الضلالة فتجتنبونَها، لأنه إذا بَيِّن الشر اجتُنِبَ، وإذا بَيَّن الخيرَ ارتُكِب.