خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ
٣
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ }: شرطٌ، وفي جوابه وجهان، أحدهما: أنه قوله: { فَٱنكِحُواْ }، وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ والعشر ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت: { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ } أخذوا يتحرَّجون من ولاية اليتامى، فقيل لهم: إنْ خفتم من الجَوْر في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجَوْر في حقوق النساء فانكِحوا هذا العدد، لأنَّ الكثرة تُفْضي إلى الجور ولا تنفع التوبةُ من ذنبٍ مع ارتكاب مثله.
والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: "فواحَدةً" والمعنى: أن الرجل منهم كان يتزوج اليتيمة التي في ولايته، فلمَّا نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم تحرَّجوا من ذلك، فقيل لهم: إنْ خفتم من نكاح النساء اليتامى فانحكوا ما طابَ من الأجنبيات، أي: اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يَحْتاج إلى تقدير/ مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء. فإن قيل: "فواحدةً" جواب لقوله: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } فكيف يكون جواباً للأول؟ أُجيب عن ذلك بأنه أعادَ الشرط الثاني، لأنه كالأول في المعنى، لمَّا طال الفصلُ بين الأولِ وجوابِه، وفيه نظرٌ لا يَخْفىٰ. على متأمله.
والخوف هنا على بابه، فالمراد به الحَذَر، وقال أبو عبيدة: إنه بمعنى اليقين، وأنشد:

1530ـ فقلتُ لهم خافوا بألفَي مُدَجَّجٍ سَراتُهُم في الفارسي المُسَرَّدِ

أي: أيقِنوا، وقد تقدَّم تحقيق ذلك والردُّ عليه، وأنَّ في المسألة ثلاثة أقوالٍ عند قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } [البقرة: 229].
قوله: { أَلاَّ تُقْسِطُواْ } إنْ قَدَّرْتَ أنها على حذفِ حرف جر أي: "مِنْ أن لا" ففيها الخلافُ المشهورُ: أهي في محل نصب أو جر، وإنْ لم تقدِّر ذلك بل وَصَل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت: "فإن حذرتم" فهي في محلِّ نصب فقط، كما تقدَّم في البقرة.
وقرأ الجمهور: "تُقْسطوا" بضم التاء من "أقسط" إذا عدل، فـ"لا" على هذه القراءة نافيةٌ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتم عدم الإِقساط أي: العدل. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب بفتحِها من "قسط"، وفيها تأويلان، أحدهما: أنَّ "قَسَط" بمعنى جار، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أنَّ الرباعي بمعنى عَدَل، والثلاثي بمعنى جار، وكأن الهمزةَ فيه للسَلْبِ، فمعنى "أقسط" أي: أزالَ القسط وهو الجور، و"لا" على هذا القول زائدةٌ ليس إلا، وإلاَّ يفسدِ المعنى، كهي في قوله:
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [الحديد: 29]. والثاني: حكى الزجاج: أن "قسط" الثلاثي يُستعمل استعمالَ "أقسط" الرباعي، فعلى هذا تكون "لا" غيرَ زائدة، كهي في القراءة الشهيرة، إلا أنَّ التفرقةَ هي المعروفة لغة.
قال الراغب: "القِسْط": أن يأخذ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساط: أن يُعْطِيَ قِسْطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: "قَسَط الرجل إذا جار، وأقسط: إذا عَدَل، قال تعالى:
{ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [الجن: 15]، وقال تعالى: { وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9].
ومن غريبِ ما يحكى أن الحجَّاج لما أَحْضر الحَبْر الشهير سعيد ابن جبير، قال له: "ما تقول فِيَّ؟" قال: "قاسط عادل"، فأعجب الحاضرين، فقال لهم الحجاج: "ويلكم. لم تفهموا. عنه، إنه جعلني جائراً كافراً، ألم تسعموا قوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } وقوله تعالى:
{ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1] وقد تقدم استيفاءُ الكلام في هذه المادة في قوله: { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18].
قوله: { مَا طَابَ } في "ما" هذه أوجه أحدُها: أنها بمعنى الذي، وذلك عند مَنْ يرى أنَّ "ما" تكون للعاقل، وهي مسألةٌ مشهورة، قال بعضُهم: "وحَسَّن وقوعَها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصاتُ العقول. وبعضهم يقول: هي لصفاتِ مَنْ يعقِل. وبعضُهم يقول: لنوعِ مَنْ يعقل، كأنه قيل: النوع الطيب من النساء، وهي عباراتٌ متقاربة، ولذلك لم نَعُدَّها أوجهاً.
الثاني: أنها نكرةٌ موصوفة أي: انكِحوا جنساً طيباً، أو عدداً طيباً.
الثالث: أنها مصدريةٌ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسم فاعل تقديره: فانكحوا الطيب. وقال الشيخ هنا: "والمصدرُ مقدرٌ هنا باسم الفاعل، والمعنى: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم"، والأول أظهر.
الرابع: أنها ظرفيةٌ، والظرفيةُ تستلزم المصدريةَ، والتقدير: فانكحوا مدةَ يطيب فيها النكاح لكم. إذا تقرر هذا فإن قلنا: إنها موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية والمصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعل كانت "ما" مفعولاً بـ"انكحوا". ويكون "من النساء" فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنس المبهم في "ما" عند مَنْ يثبت لها ذلك. والثاني: أنها تبعيضية، أي: بعض النساء، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من "ما طاب". وإن قلنا: إنها مصدريةٌ ظرفية أو مصدرية محضة، ولم يُوقَعِ المصدرُ موقعَ اسم فاعل كما تقدمت حكايتُه عن الشيخ كان مفعول "فانكحوا" قوله "من نساء"، نحو قولك: أكلت من الرغيف، وشربت من العسل" أي: شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل. فإنْ قيل: لِمَا لا تَجْعل على هذا "مَثْنى" وما بعدها مفعولَ "فانكحوا" أي: فانكحوا هذا العدد؟ فالجوابُ: أن هذه الألفاظ المعدولةَ لا تلي العوامل.
وقرأ ابن أبي عبلة: "مَنْ طاب" وهو مرجِّحٌ كونَ "ما" بمعنى الذي للعاقل. وفي مصحف أبي بن كعب: "طِيب" بالياء، وهذا ليس بمبني للمفعول، لأنه قاصر، وإنما كتب كذلك دلالة على الإمالةِ وهي قراءة حمزة.
قوله: { مَثْنى } منصوب على الحال من "ما طاب". وجعله أبو البقاء حالاً من "النساء". وأجاز هو وابن عطية أن يكونَ بدلاً من "ما". وهذان الوجهان ضعيفان: أمَّا الأول فلأنَّ المُحَدَّث عنه إنما هو الموصول، وأتى بقوله: "من النساءِ" كالتبيين. وأما الثاني فلأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العامل، وقد تقدَّم أنَّ هذه الألفاظَ لا تباشر العواملَ.
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولةَ فيها خلافٌ، وهل يجوز فيها القياسُ أم يُقتصر فيها على السماع؟ قولان: قول البصريين عدمُ القياس، وقول الكوفيين وأبي إسحاق جوازُه، والمسموعُ من ذلك أحدَ عشر لفظاً: أُحاد ومَوْحَد، وثُناء ومَثْنى، وثُلاث وَمَثْلَث، ورُباع ومَرْبع، ومَخْمس، ولم يُسمع خُماس، وعُشار ومَعْشر. واختلفوا أيضاً في صرفها وعدمِه: فجمهورُ النحاةِ على منعة، وأجاز الفراء صرفها، وإن كان المنعُ عنده أَوْلى.
واختلفوا أيضاً في سببِ مَنْعِ الصرف فيها على أربعة مذاهب، أحدُها: مذهب سيبويه، وهو أنها مُنِعَتِ الصرفَ للعدل والوصف: أمَّا الوصفُ فظاهر، وأمَّا العدلُ فلكونها معدولةً من صيغة إلى صيغة، وذلك أنها معدولةٌ عن عددٍ مكرر، فإذا قلت: جاء القوم أحادَ أو مَوْحَدَ، أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ كان بمنزلة قولك: "جاؤوا واحداً واحداً/ وثلاثةً ثلاثة". ولا يُراد بالمعدول عنه التوكيدُ، إنما يراد به تكريرُ العدد كقولهم: "عَلَّمْتُه الحسابَ باباً باباً".
والثاني: مذهب الفراء، وهو العدلُ والتعريف بِنِيَّةِ الألف واللام، ولذلك يَمْتنع إضافتُها عنده لتقديرِ الألف واللام، وامتنع ظهورُ الألف واللام عنده لأنها في نية الإِضافة.
الثالث: مذهب أبي إسحاق: وهو عَدْلُها عن عددٍ مكرر، وعَدْلُها عن التأنيث.
والرابع: نقله الأخفش عن بعضهم أنه تكرارُ العدل، وذلك أنه عُدل عن لفظ اثنين اثنين، وعن معناه لأنه قد لا يستعمل في موضع تُستعمل فيه الأعدادُ غيرُ المعدولةِ تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا تقول: "جاءني مَثْنى وثلاث" حتى يتقدَّم قبله جمعٌ، لأن هذا الباب جُعِل بياناً لترتيبِ الفعلِ. فإذا قلت: "جاء القوم مَثْنَى" أفادَ أنَّ مجيئَهم وقع من اثنينِ اثنين، بخلافِ غيرِ المعدولة، فإنها تفيدُ الإِخبار عن مقدارِ المعدودِ دونَ غيرِه، فقد بانَ بما ذكرنا اختلافُهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقومَ العلةُ مَقام علتين لإِيجابها حكمين مختلفين. انتهى. ولهذه المذاهبِ أدلةٌ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ ليس هذا موضعَها.
وقال الزمخشري: "إنما مُنِعت الصرفَ لما فيها من العدل: عدلِها عن صيغتِها، وعدلِها عن تكررها، وهن نكراتٌ يُعَرَّفْنَ بلام التعريف، يقال: "فلان ينكح المَثْنى والثُلاث". قال الشيخ: "وما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا أعلم أحداً قاله، بل المذاهب فيه أربعة"، وذكرها كما تقدم، وقد يقال: إن هذا هو المذهب الرابع، وعَبَّر عن العدل في المعنى بعدلِها عن تكررها. وناقشه الشيخ أيضاً في مثاله بقوله: "ينكح المثنى" من وجهين، أحدهما: دخول "أل" عليها، قال: "وهذا لم يَذْهب إليه أحد، بل لم تستعمل في لسان العرب إلا نكراتٍ". الثاني: أنه أولاها العوامل، ولا تلي العوامل، بل يتقدمهما شيء يلي العواملَ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام:
"صلاةٌ الليلِ مَثْنى مثنى" ، أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة، أو صفاتٍ نحو قوله تعالى: { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [فاطر: 1]، وقوله:

1531ـ .......................... ذئابٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ

وقد وقعت إضافتُها قليلاً كقوله:

1532ـ ......................... بمَثْنى الزُّقاقِ المُتْرَعات وبالجُزُرْ

وقد استدلَّ بعضُهم على إيلائها العواملَ على قلة بقوله:

1533ـ ضربْتُ خُماسَ ضربةَ عبشمِيٍّ أدارُ سداسَ أن لا يستقيما

ويمكنُ تأويله على حذف المفعول لفهمِ المعنى تقديرُه: ضربتهم خماسَ.
ومن أحكام هذه الألفاظ ألاَّ تؤنَّثَ بالتاء، لا تقول: "مَثْناة" ولا "ثُلاثَة"، بل تَجْري على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً.
وقرأ النخعي وابن وثاب: "ورُبَعَ" من غير ألف. وزاد الزمخشري عن النخعي:"وثُلَثَ" أيضاً، وغيرُه عنه: "ثُنَى" مقصوراً من "ثُناء". حَذَفوا الألف من ذلك كله تخفيفاً، كما حذفها الآخر في قوله:

1534ـ وصِلِّيـــانـــــا بَــــــــرِدا

يريد: بارداً.
قوله: { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرط، جوابه: "فواحدة"، وقد تقدم أن منهم مَنْ جعل "فواحدة" جواباً للأول، وكرر الثاني لما طال الفصل، وجعل قوله: { فانكحوا } جملةَ اعتراض، ويُعْزَى لأبي عليّ، ولعله لا يَصِحُّ عنه. قال الشيخ: "لأنه إذا أُنتج من الآيتين: هذه وقوله:
{ وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ } [النساء: 129] ما أنْتَج من الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة أو يتسرَّى بما ملكَتْ يمينُه، ويبقى الفصلُ بجملةِ الاعتراض لا فائدةَ له، بل يكون لَغْواً على زعمِه".
والجمهور على نصبِ "فواحِدةَ" بإضمار فعلٍ أي: فانكحوا واحدة وطَؤُوا ما ملكت أيمانكم، وإنما قَدَّرْنا ناصباً آخر لمِلْكِ اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في مِلْكِ اليمين إلا أن يريدَ به الوطْءَ في هذا والتزوج في الأول، فليزم استعمالُ المشتركِ في معنييه أو الجمعُ بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقولٌ به، وهذا قريبٌ من قوله:

1535ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ...........................

وبابِه.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: "فواحدةٌ" بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: الرفعُ بالابتداء، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة اعتمادُها على فاء الجزاء، والخبرُ محذوف أي: فواحدةٌ كافية. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: فالمُقْنِعُ واحدة. الثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر أي: فيكفي واحدة.
و"أو" على بابها مِنْ كونِها للإِباحةِ أو التخيير. و"ما" في "ما مَلَكَتْ" كهي في قوله: "ما طابَ". وأضافَ المِلْك لليمين لأنها محلُّ المحاسن، وبها تُتَلَقَّى راياتُ المجد. ورُوي عن أبي [عمرو]: "فما ملكت أيمانكم"، والمعنى: إنْ لم يَعْدل في عُشْرةِ واحدةٍ فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: "أو مَنْ ملكت أيمانكم".
قوله: { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ } مبتدأ وخبر، و"ذلك" إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي. و"أَدْنى" أفعلُ تفضيل من دنا يدنو أي: قَرُب أي: أقربُ إلى عدِم العَوْل.
و{ أَن لاَ تَعُولُواْ } في محلِّ نصب أو جَرٍّ على الخلافِ المشهور في "أن" بعد حذف حرف الجر، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: "إلى" أي: أدنى إلى ألاَّ تعولوا. والثاني: "اللام" والتقدير: أدنى لئلا تعولوا. والثالث: وقَدَّره الزمخشري: مِنْ أن لا تميلوا، لأن أفعل التفضيل يَجْري مجرى فِعله، فما تعدَّى به فعلُه تعدَّى هو به، وأَدْنى من دنا، و"دنا" يتعدَّى بـ إلى واللام ومِنْ. تقول: دَنَوْت إليه وله ومنه.
وقرأ الجمهور: "تَعُولوا" مِنْ عالَ يَعُول إذا مال وجار، والمصدر: العَوْل والعِيالة، وعالَ الحاكم أي: جار، قال أبو طالب في النبيّ صلى الله عليه وسلم:

1536ـ ........................ له حاكمٌ من نفسِه غيرُ عائِل

وعالَ الرجل عيالَه يَعُولهم أي: مانَهم من المَؤُونة، ومنه: "ابدَأْ بنفسك ثم بمن تعول" ، وحكى ابن الأعرابي: عال الرجل يعول: كثر عياله، وعالَ يَعِيل افتقر وصار له عائلةٌ. والحاصل: أن "عال" يكونُ لازماً ومتعدياً، فاللازمُ يكون بمعنى مالَ وجارَ، ومنه "عال الميزانُ"، وبمعنى كَثُر عيالُه، وبمعنى تفاقم الأمرُ، والمضارعُ من هذا كلِّه يعولُ، وعالَ الرجل، افتقر، وعالَ في الأرض ذهب فيها، والمضارع من هذين يَعِيل، والمتعدي يكون بمعنى أثقل وبمعنى مان من المؤونة وبمعنى غَلَب، ومنه "عيل صبري"/، ومضارع هذا كله: يَعُول، وبمعنى أعجز، تقول: أعالني الأمر أي: أعجزني، ومضارع هذا يَعيل، والمصدر عَيْل ومَعِيل. فقد تلخص من هذا أن "عال" اللازم يكون تارة من ذوات الواو وتارة من ذوات الياء باختلاف المعنى، وكذلك "عال" المتعدي أيضاً.
وفَسَّر الشافعي "تَعُولوا" بمعنى: يكثرُ عيالُكم، وردَّ هذا القولَ جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب "النظم". قال الرازي: "هذا غلطٌ من جهة المعنى واللفظ: أما الأول فلإِباحة السراري مع أنه مَظَنَّة كثرة العيال كالتزوج، وأما اللفظ فلأن مادة "عال" بمعنى كَثُر عياله من ذوات الياء لأنه من العَيْلَة، وأما "عال" بمعنى جار فمِنْ ذواتِ الواو فاختلفت المادتان، وأيضاً فقد خالَفَ المفسرين". وقال صاحب النظم: "قال أولاً "ألاَّ تعدلوا" فوجَبَ أن يكونَ ضدُّه الجورَ".
وقد ردَّ الناسُ على هؤلاء، أمَّا قولهم: التسرِّي أيضاً يكثُر معه العيال من أنه مباح" فممنوعٌ، وذلك لأنَّ الأمةَ ليست كالمنكوحةِ، ولهذا يَعْزِلُ عنها بغيرِ إذنها ويُؤْجرُها ويأخذ أُجرتها ينفقها عليه وعليها وعلى أولادها. وقال الزمخشري: "وجهُه أَنْ يُجعل من قولِك: "عالَ الرجل عِياله يعولهم" كقولك: مانَهم يَمُونهم أي: أنفق عليهم، لأنَّ مَنْ كثر عياله لزمه أن يَعُولهم، وفي ذلك ما يَصْعُب عليه المحافظة من كسبِ الحلال والأخذِ من طيب الرزق" ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً، وقال: "ولكنْ للعلماء طرقٌ وأساليبُ، فسلك في تفسير هذه الكلمة مَسْلَكَ الكنايات". انتهى.
وأمَّا قولُهم: "خالفَ المفسرين" فليس بصحيح، بل قاله زيد ابن أسلم وابن زيد. وأمَّا قولُهم "اختلف المادتان" فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب: "عال الرجل يَعُول: كثر عياله"، وحكاها الكسائي أيضاً، قال: "يقال: عال الرجل يَعُول، وأعال يُعيل: كَثُر عياله" ونقلها أيضاً الدوري المقرىء لغةً عن حِمْير وأنشد:

1537ـ وإنَّ الموتَ يأخذُ كلَّ حَيٍّ بلا شك وإنْ أَمْشى وعَالا

أمشىٰ: كثرت ماشيته، وعال: كَثُر عياله، ولا حجةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكونَ "عال" من ذوات الياء، وهم لا يُنْكرون أنَّ "عال" يكون بمعنى كَثُر عياله، ورُوي عنه أيضاً أنه فسَّر "تَعُولوا" بمعنى تفتقروا، ولا يُريد به أنَّ تَعولوا وتَعيلوا بمعنى، بل قصدَ الكناية أيضاً، لأن كثرة العيال سببُ الفقر.
وقرأ طلحة: "تَعيلوا" بفتح تاء المضارعة من عالَ يعيل: افتقر، قال:

1538ـ وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه وما يَدْري الغنيُّ متى يَعِيل

وقرأ طاوس: "تُعيلوا" بضمها من أعال: كَثُر عياله، وهي تعضُد تفسيرَ الشافعي المتقدم من حيث المعنى. وقال الراغب: "عاله وغاله يتقاربان، لكن الغَوْل فيما يُهْلِك، والعَوْل فيما يُثْقِل، وعالت الفريضة: إذا زادت في القِسمة المسماة لأصحابها بالنصِّ".