خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
٤٦
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ }: فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها: أَنْ يكونَ "مِن الذين" خبراً مقدماً، و"يُحَرِّفون" جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لموصوف محذوف هو مبتدأ، تقديره: "من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون" وحَذَفُ الموصوفِ بعد "مِنْ" التبعيضية جائزٌ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم: "منا ظَعَن ومنا أَقام" أي: فريق ظعن، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي، ومثلُه:

1590ـ وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ

أي: فمنهما تارةً أموت فيها.
الثاني: ـ قول الفراء ـ وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً، ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره: "من الذين هادوا مَنْ يحرفون"، ويكون قد حَمَل على المعنى في "يُحَرِّفون"، قال الفراء: "ومثله:

1591ـ فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ

قال: "تقديرُه: "ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له". والبصريون لا يجيزون حَذْفَ الموصولِ لأنه جزءُ كلمة، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم، وتأويلُهم أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو "آخر"، و"أخرى" في البيتِ قبلَه، فيكونُ في ذلك دلالةٌ على المحذوفِ، والتقديرُ: فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ.
الثالث: أنَّ "مِن الذين" خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين هادوا، و"يُحَرِّفون" على هذا حالٌ من ضمير "هادوا". وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله "نصيراً".
الرابع: أن يكونَ "من الذين" حالاً من فاعل "يريدون" قاله أبو البقاء، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في "أوتوا" ومن "الذين" أعني في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } قال: "لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض". قلت: وهذه مسألةٌ خلافٍ، من النحويين مَنْ مَنَع، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح.
الخامس: أنَّ "مِن الذين" بيانٌ للموصولِ في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ، قال الزمخشري، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي: "والله أعلم" إلى آخره، وإذا كان الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً.
السادس: أنه بيانٌ لأعدائِكم، وما بينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه.
السابع: أنه متعلِّقٌ بـ"نصيراً"، وهذه المادةُ تتعدَّى بـ"من". قال تعالى:
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ } [الأنبياء: 77] { { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ } [غافر: 29] على أحدِ تأويلين: إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي: منعناه من القوم، وكذلك: وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا، وإمَّا على جَعْلِ "مِنْ" بِمعنى "على" والأولُ مذهبُ البصريين. فإذا جعلنا "من الذين" بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق؟؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف، ويَدُلُّ على ذلك أنهم قالوا في "سُقيْاً لك": إنَّ "لك" متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ.
وقال أبو البقاء: "وقيل: هو حالٌ من "أعدائكم" أي: واللهُ أعلمُ بأعدائِكم كائنين من الذين هادوا، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال". فقوله هذا يُعْطي أنه بيانٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لكن لا على ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان.
وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ "يُحَرِّفون": إمَّا لا محلَّ له، أو له محلُّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم. وقرأ أبو رجاء والنخعي: "الكلام" وقرىء "الكِلْم" بكسر الكاف وسكون اللام جمع "كِلْمة" مخففة من كَلِمة، ومعانيهما متقاربةٌ.
و{ عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّقٌ بـ"يُحَرِّفون"، وذكَّر الضمير في "مواضعه" حَمْلاً على "الكَلِم" لأنها جنسٌ.
وجاء هنا: { عَن مَّوَاضِعِهِ }، وفي المائدة:
{ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [الآية: 41] قال الزمخشري: "أمَّا "عن مواضِعه" فَعَلى ما فَسَّرناه من إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم من إبدالِ غيره مكانَه، وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قَمِنٌ بأن يكونَ فيها، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارِّه، والمعنيان متقاربان". قال الشيخ: "وقد يقال إنهما سِيَّان، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة { { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [الآية: 41]؛ لأنَّ قولَه "عَنْ مَّواضِعِه" يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له، وحُذِف في ثاني المائدة "عن مواضِعِه" لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن مواضعِه، فالأصلُ: يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها، فَحَذَف هنا البعدية وهناك "عنها" توسُّعاً في العبارةِ، وكانت البداءةُ هنا بقوله "عن مواضعِه" لأنه أخصرُ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على "عن" وعلى المواضعِ وإشارةٌ إلى البعدِيَّة".
وقال أيضاً: "والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا إلى ذلك، ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم بنقضِ الميثاق وقسوةِ القلوب، وحيث وُصِفوا باللين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في مواضعِها فهما سياقان مختلفان".
وقوله: { وَيَقُولُونَ } عطفٌ على "يُحَرِّفون"، وقد تقدَّم، وما بعده في محلِّ نصبٍ به. قوله: { غَيْرَ مُسْمَعٍ } في نصبه وجهان أحدهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه مفعولٌ به، والمعنى: اسمَعْ غيرَ مُسْمَع كلاماً ترضاه، فسمعُك عنه نابٍ. قال الزمخشري ـ بعد حكايتِه نصبَه على الحالِ وذكرِه المعنى المتقدم ـ: " ويجوز على هذا أن يكون "غيرَ مُسْمَع" مفعول "اسمَعْ" أي: اسْمَعْ كلاماً غيرَ مسمعٍ إياك لأنَّ أذنك لا تَعِيه نُبُوّاً عنه". وهذا الكلامُ ذو وجهين: يعني أنَّه يحتمل المدح والذم فبإرادة المدحِ تقدِّرُ: "غيرَ مُسْمِعٍ مكروهاً"، فيكونُ قد حذف المفعولَ الثاني، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، وبإرادة الذمِّ تقدِّر: "غير مُسْمع خيراً"، وحُذِفَ المفعولُ الثاني أيضاً.
وقال أبو البقاء: "وقيل: أرادوا غيرَ مسموعٍ منك"، وهذا القولُ نَقَله ابن عطية عن الطبري، وقال: "إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد". قال ابن عطية: "ولا يساعِدُه التصريف" يعني أن العرب لا تقول: "أَسْمَعْتُك" بمعنى قَبْلْتُ منك، وإنما تقول: "أسْمَعْتُه" بمعنى سَبَبْتُه، و"سمعت منه" بمعنى: قَبِلْتُ منه، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً، وتقدَّم القولُ في
{ { رَاعِنَا } [الآية: 104] في البقرة.
قوله: { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً } فيهما وجهان أحدهما: أنهما مفعولٌ من أجله ناصبُهما: "ويقولون". والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال أي: لاوينَ وطاعنِين. وأصل لَيّاً: "لَوْيٌ" من لوى يَلْوي، فأُدْغِمَتِ الواوُ في الياء بعد قَلْبِها ياءً فهو مثل "طَيّ" مصدر طَوَى يَطْوي. و"بألسنتِهم" و"في الدين" متعلقان بالمصدرين قبلهما. و{ لَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ } تقدَّم الكلامُ على ذلك في البقرة بأشبعِ قول.
قوله: { لَكَانَ خَيْراً } فيه قولان، أظهرُهما: أنه بمعنى أفعل، ويكونُ المفضَّلُ عيه محذوفاً، أي: لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ. والثاني: أنه لا تفضيلَ فيه، بل يكون بمعنى جيد وفاضل، فلا حَذْفَ حينئذ، والباءُ في "بكفرِهم" للسببية.
قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنَّه منصوبٌ على الاستثناءِ من "لَعَنَهم" أي: لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم، فإنهم آمنوا فلم يَلْعَنْهم. والثاني: أنه مستثنى من الضميرِ في "فلا يؤمنون" والمرادُ بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه. ولم يستحسن مكي هذين الوجهين: أمَّا الأول قال: لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يُسْتثنىٰ منهم أحدٌ. وأمَّا الثاني: فلأنَّ الوجهَ الرفعُ على البدلِ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ". والثالث: أنه صفةٌ/ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إلا إيماناً قليلاً، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وعَبَّر الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة، كقوله:

1592ـ قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه ......................

قال الشيخ: "وما ذكراه من أن التقليلَ يُراد به العَدَمُ صحيح، غير أنَّ هذا التركيبَ الاستثنائي يأباه، فإذا قلت: "لم أقم إلا قليلاً" فالمعنى: انتفاء القيام إلا القليلَ فيوجد منك، لا أنه دال على انتفاء القيامِ البتةَ بخلافَ "قَلَّما يقولُ ذلك أحدٌ إلا زيدٌ" و"قَلَّ رجلٌ يفعل ذلك" فإنه يَحْتمل القليل المقابل للتكثير، ويحتمل النفيَ المحض، أمَّا أنك تنفي ثم توجب، ثم تريد بالإِيجاب بعد النفي نفياً فلا، لأنه يلزم أَنْ تجيءَ "إلاَّ" وما بعدها لغواً من غيرِ فائدة، لأنَّ انتفاءَ القيام قد فُهِم من قولك: "لم أقم" فأيُّ فائدةٍ في استثناء مثبت يراد به انتفاءٌ مفهومٌ من الجملة السابقة؟ وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعدَ "إلا" موافقاً لِما قبلها في المعنى، والاستثناءُ يلزم أن يكون ما بعد "إلاَّ" مخالفاً لِما قبلها فيه".