خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٣
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { أَذَاعُواْ بِهِ }: جواب إذا، وعَيْنُ أذاع ياء لقولهم: ذاع الشيءَ يذِيع، ويُقال: أذاع الشيء أيضاً بمعنى المجرد، ويكونُ متعدياً بنفسه وبالباء، وعليه الآيةُ الكريمة، وقيل: ضَمَّن "أذاع" معنى "تَحَدَّثَ" فَعدَّاه تعديتَه أي: تحدَّثوا به مذيعين له. والإِذاعة: الإِشاعةُ، قال أبو الأسود:

1622- أذاعُوا به في الناسِ حتى كأنه بِعَلْياءِ نار أُوقِدَتْ بثَقُوب

والضميرُ في "به" يجوزُ أن يعودَ على الأمر، وأن يعودَ على الأمن أو الخوفِ؛ لأنَّ العطفَ بـ"أو"، والضميرُ في "رَدُّوه" للأمر فقط. والاستنباط: الاستخراج، وكذا الإِنباط قال:

1623- نَعَمْ صادقاً والفاعلُ القائلُ الذي إذا قال قَوْلاً أنبطَ الماءَ في الثَّرى

/ ويقال: نَبَطَ الماءُ يَنْبطُ بفتحِ الباءِ وضَمِّها، والنَّبَط: الماءُ الذي يَخْرج من البئرِ أولَ حَفْرِها. والنَّبَط أيضاً" جيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرجل الذي يكون بعيد العِزِّ والمنعة: "ما يَجِدُ عدوُّه له نَبَطاً" قال كعب:

1624- قريبٌ ثَراه ما ينال عدوُّه له نَبَطاً، آبيْ الهوانِ قَطُوبُ

و"منهم" حال: إمَّا من الذين، أو من الضمير في "يستنبطونه" فيتعلق بمحذوف. وقرأ أبو السمَّال: "لَعَلْمه" بسكون اللام، قال ابن عطية: "هو كتسكين { { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء: 65]. وليس مثله؛ لأن تسكين فَعِل بكسر العين مقيسٌ، وتسكينَ مفتوحِها شاذٌّ، ومثلُ تسكين "لَعَلْمه" قوله:

1625- فإنْ تَبْلُه يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ من الأُدْمِ دُبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُه

أي: دَبِرت، فسكَّن.
قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه عشرةُ أوجه، أحدها: أنه مستثنى من فاعل "اتَّبعتم" أي: لاتبعتم الشيطانَ إلا قليلاً منكم، فإنه لم يَتَّبع الشيطان، على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك القليلُ كقِسِّ بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول. وقيل: المرادُ مَنْ لم يبلغ التكليفَ، وعلى هذا التأويل قيل: فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر. الثاني: أنه مستثنى من فاعل "أذاعوا" أي: أظهروا أمرَ الأمن او الخوف إلا قليلاً. الثالث: أنه مستثنى من فاعل "عَلِمه" أي: لعلمه المستنبطون منهم إلا قليلاً. الرابع: أنه مستثنى من فاعل "لوجدوا" أي لوجدوا فيما هو من غير الله التناقضَ إلا قليلاً منهم، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النظرَ، فيظنَّ الباطلَ حقاً والمتناقضَ موافقاً. الخامس: أنه مستثنى من الضمير المجرور في "عليكم" وتأويلُه كتأويل الوجه الأول. السادس: أنه مستنثى من فاعل "يستنبطونه" وتأويله كتأويل الوجه الثالث. السابع: أنه مستثنى من المصدر الدالِّ عليه الفعلُ، والتقدير: لاتَبَعْتُمْ الشيطانَ إلا اتباعاً قليلاً، ذكر ذلك الزمخشري. الثامن: أنه مستثنى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها، فالمعنى: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من الأمور، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ، ذكر ذلك ابن عطية، إلا أنَّ في كلامِه مناقشةً وهو أنه قال "أي: لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها" فجعله هنا مستثنى من المتَّبعِ فيه المحذوف على ما تقدم تقريره، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الإتِّباع، فتقديرُه يؤدي إلى استثنائِه من المتَّبع فيه، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع، وهما غَيْران. التاسع: أن المراد بالقلة العدمُ، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم وعدم تخلُّفِ أحدٍ منكم، نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطبري، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها، قال: "وهذا كلامٌ قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: "هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا" أي لا تنبت شيئاً. وهذا الذي قاله صحيح، إلا أنه كان تقدم له في البقرة في قوله تعالى
{ { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 46] أن التقليل هنا بمعنى العدم، وتقدَّم الردُّ عليه هناك فَتَنَبَّهَ لهذا المعنى هنا ولم يتنبهْ له هناك. العاشر: أن المخاطبَ بقوله "لاتبعتم" جميعُ الناس على العموم، والمرادُ بالقليلِ أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وأيَّد صاحبُ هذا القولِ قولَه بقولِه عليه السلام "ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالرَّقْمة البيضاء في الثور الأسود" .