خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ }: الجمهورُ على نصب "أنفسكم" وهو منصوب على الإِغراء بـ "عليكم"؛ لأنَّ "عليكم" هنا اسمُ فعل إذ التقدير: الزموا أنفسَكم أي: هدايتَها وحِفْظَها مِمَّا يؤذيها، فـ "عليكم" هنا يرفع فاعلاً تقديره: عليكم أنتم، ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوع نحو: "عليكم أنتم وزيدٌ الخيرَ" كأنك قلت: الزموا أنتم زيدٌ الخيرَ. واختلف النحاة في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتِها نحو: إليك ولديك ومكانك، فالصحيح أنه في موضعِ جر كما كان قبلَ تُنْقَلَ الكلمة إلا الإِغراء، وهذا مذهب سيبويه واستدل له الأخفش بما حكى عن العرب "على عبدِ الله" بجرِّ "عبد الله" وهو نص في المسألة. وذهب الكسائي إلى أنه منصوب المحل وفيه بُعْدٌ لنصب ما بعدهما، أعني "على" وما بعدها كهذه الآية. وذهب الفراء إلى انه مرفوعُه، وقد حَقَّقْتُ هذه المذاهبَ بدلائلها مبسوطة في "شرح التسهيل". وقال أبو البقاء:- بعد أن جعل "كم" في موضع جر بـ "على" بخلافِ رُوَيدَكم فإن الكاف هناك للخطاب ولا موضعَ لها، فإن "رويد" قد استُعْمَلِتْ للأمر المواجَهِ من غير كاف الخطاب، وكذا قولُه تعالى: { { مَكَانَكُمْ } [يونس: 28] "كم" في محل جر". قلت: في هذه المسألة كلامٌ طويل، صحيحُه أنَّ "رويد" تارةً يكون ما بعدها مجرورَ المحلِّ وتارةً منصوبَه، وليس هذا موضعه، وقد قَدَّمْتُ في سورةِ النساءِ الخلافَ في جواز تقديم معمول هذا الباب عليه.
وقرأ نافع بن أبي نعيم: "أنفسُكم" رفعاً فيما حكاه عنه صاحب "الكشاف" وهي مُشْكَلِةٌ وتخريجُها على أحد وجهين: إما الابتداء، و"عليكم" خبره مقدم عليه، والمعنى على الإِغراء أيضاً، فإن الإِغراء قد جاء بالجملة الابتدائية، ومنه قراءةُ بعضِهم
{ ناقةُ الله وسُقْياها } [الشمس: 13] وهذا تحذيرٌ وهو نظيرُ الإِغراء، والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضمير المستترِ في "عليكم" لأنه كما تقدم قائمةٌ مقامَ الفعل، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيد بضمير منفصل، والمفعول على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عليكم أنتم أنفسُكم صلاح حالكم وهدايتكم.
قوله: { لاَ يَضُرُّكُمْ } قرأ الجمهور بضم الراء مشددة. وقرأ الحسن البصري: { لا يَضُرْكم } بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم النخعي: { لا يَضِرْكم } بكسر الضاد وسكون الراء، وقرأ أبو حيوة: { لا يَضْرُرُكم } بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية. فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ الفعلُ فيها مجزوماً على جواب الأمر في "عليكم" وإنما ضُمَّت الراءُ إتباعاً لضمةِ الضاد، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى نُقِلَتْ للضادِ لأجلِ إدغامها في الراء بعدها، والأصل: { لا يَضْرُرْكم }، ويجوز أن يكونَ الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهيٌ مستأنف، والعملُ فيه ما تقدَّم، وينصُر جوازَ الجزم هنا على المعنيين المذكورَيْن من الجواب والنهي قراءةُ الحسن والنخعي فإنهما نَصٌّ في الجزم ولكنهما محتملتان للجزمِ على الجوابِ أو النهي. والوجه الثاني: أن يكونَ الفعلُ مرفوعاً وليس جواباً ولا نهياً، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإِخبار بذلك، وينصرُه قراءةُ أبي حيوة المتقدمة.
وأمَّا قراءةُ الحسنِ فَمِنْ { ضارَه يَضُوره } كصانَه يصونه. وأما قراءة النخعي فمِنْ { ضاره يضيره } كباعة يَبيعه، والجزم فيهما على ما تقدم في قراءة العامة من الوجهين. وحَكَى أبو البقاء: "لا يَضُرَّكم" بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيف وهو واضح، والجزم على ما تقدم أيضاً من الوجهين. وهذه كلُّها لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران.
و{ مَّن ضَلَّ } فاعل، و"إذا" ظرفٌ ناصبُه "يَضُرُّكم" أي: لا يَضُرَّكم الذي ضلَّ وقتَ اهتدائِكم، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ الكلام عليه. وقال أبو البقاء: "ويبعد أن تكون ظرفاً لـ "ضَلَّ" لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه". قلت: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّن يضل وقت اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينفي عنهم ضرر مَنْ ضَلَّ في غيرِ وقتِ اهتدائهم، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذَكَرَه.