خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٤٤
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { فِيهَا هُدًى }: يحتملُ الوَجْهين المذكورين في قوله: { وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ } فـ "هُدَى" مبتدأٌ أو فاعلٌ، والجملةُ حالٌ من التوراة. وقوله: { يَحْكُمُ بِهَا } يجوز أن تكونَ جملةً متسأنفة، ويجوز أن تكون منصوبةً المحلِّ على الحال: إمَّا من الضميرِ في "فيها" وإمَّا من التوارة. وقوله: { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفةٌ لـ "النبيون" وصفهم بذلك على سبيل المدحِ والثناء لا على سبيلِ التفصيلِ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلمون، وإنما أثنى عليهم بذلك كما تَجْري الأوصافُ على أسماءِ اللَّهِ تعالى. قال الزمخشري: "أُجْرِيَتْ على النبيين على سبيلِ المدحِ كالصفات الجاريةِ على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح، وأُريد بإجرائِها التعريضُ باليهود وأنهم بُعَداءُ من ملةِ الإِسلام الذي هو دينُ الأنبياء كلِّهم في القديم والحديث، فإنَّ اليهودَ/ بمعزل عنها، وقوله: { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } منادٍ على ذلك" أي دليلٌ على ما ادِّعاه.
قوله: { لِلَّذِينَ هَادُواْ } في هذه اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُهما: أنها متعلقةٌ بـ "يحكم" فعلى هذا معناها الاختصاصُ، وتشمل مَنْ يحكم له ومَنْ يحكم عليه، ولهذا ادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام حَذْفاً تقدره: "يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم" ذكره ابن عطية وغيره. والثاني: أنها متعلقةٌ بأنزلنا، أي: أنزلنا التوراةَ للذين هادُوا يحكمُ بها النبيون. والثالث: أنها متعلقةٌ بنفسِ "هُدى" أي: هدى ونور للذين هادوا، وهذا فيه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه، وعلى هذا الوجهِ يجوز ان يكون "للذين هادوا" صفةً لـ"هدى ونور" أي: هدى ونور كائن للذين هادوا، وأولُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ.
قوله: { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ } عطفٌ على "النبيون" أي: إنَّ الربانيين - وقد تقدَّم تفسيرُهم في آل عمران - يَحْكُمون أيضاً بمقتضى ما في التوراةِ. والأحبارُ: جمع "حَبرْ" بفتح الحاء وكسرها وهو العالم، وأنكر أبو الهيثم الكسر، والفراء والفتح، وأجاز أبو عبيد الوجهين، واختار الفتحَ، فأمَّا "الحِبْر" الذي يُكْتَبُ به فالبكسر فقط، وأصلُ المادةِ الدلالةُ على التحسين والمسرَّة، وسُمِّي ما يكتب به حِبراً لتحسينِ الخط، وقيل: لتأثيره، ويدلُّ للأول قولُه تعالى:
{ { أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [الزخرف: 70] أي: تفرحون وتُزَيَّنون وقال أبو البقاء: "وقيل الربانيون [مرفوع] بفعل محذوف أي: ويحكم الربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا" انتهى. يعني أنه لَمَّا اختلف متعلَّقٌ الحكم غاير بين الفعلين أيضاً فإنَّ النبيين يحكمُون بالتوارة، والأحبارُ والربانيون يحكمون بما ساتحفظهم اللّهُ، وهذا بعيدٌ عن الصواب؛ لأنَّ الذي استحفظهم الله هو مقتضى ما في التوراة، فالنبيون والربانيون حاكمون بشي واحد، على أنه سيأتي أنَّ الضميرَ في "استُحْفِظوا" عائدٌ على النبيين فَمَنْ بعدهم.
قوله: { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ } أجاز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ "بما" بدلٌ من قوله "بها" بإعادةِ العامل لطول الفصل، قال: "وهو جائزٌ وإنْ لم يَطُلْ" أي: يجوزُ إعادةُ العامل في البدل وإن لم يَطُلْ، قلت: وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً: الثاني: أن يكون متعلقاً بفعلٍ محذوفٍ، أي: ويحكم الربَّانيون بما استُحْفِظوا، كما قدمته عنه. والثالث: أنه مفعولٌ به أي: يَحْكُمون بالتوارةِ بسبب استحفاظهم ذلك، وهذا الوجهُ الأخير هو الذي نَحَا إليه الزمخشري فإنه قال: "بما استُحْفِظوا بما سألهم أنبياؤهم حِفْظَه من التوراة، أي: بسبب سؤالِ أنبيائِهم إياهم أَنْ يحفَظُوه من التبديلِ والتغيير" وهذا على أن الضميرَ يعودُ على الربانيين والأحبار دون النبيين، فإنه قَدَّر الفاعلَ المحذوف "النبيين"، وأجازَ أن يعودَ الضميرُ في "استُحْفِظوا" على النبيين والربانيين والأحبار، وقَدَّر الفاعلَ المنوبَ عنه الباري تعالى أي: بما استحفظهم الله، يعني بما كلَّفهم حِفْظَه.
وقوله: { مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } قال الزمخشري: "و"مِنْ" في "مِنْ كتاب الله" للتبين" يعني أنها لبيانِ الجنسِ المبهمِ في "بما" فإن "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً اسمية بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بما استحفظوه، وأن تكونَ مصدريةً أي: باستحفاظهم. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من أحدِ شيئين: إمَّا من "ما" الموصولةِ أو مِنْ عائدها المحذوفِ، وفيه نظرٌ من حيث المعنى. وقوله: "وكانوا" داخل في حَيِّز الصلة أي: وبكونِهم شهداءَ عليه أي: رُقَبَاء لئلا يُبَدِّل، فـ "عليه" متعلقٌ بـ "شهداء" والضميرُ في "عليه" يعودُ على "كتاب الله" وقيل: على الرسولِ، أي: شهداءَ على نبوتِه ورسالتِه، وقيل: على الحُكْم، والأولُ هو الظاهرُ.