خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٥٠
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { أَفَحُكْمَ }: الجمهورُ على ضم الحاء وسكون الكاف ونصب الميم، وهي قراءةٌ واضحة. "حكمَ" مفعول مقدم، و"يبغون" فعل وفاعل، وهو المستفهم عنه في المعنى، والفاءُ فيها القولان المشهوران: هل هي مؤخرة على الهمزة وأصلُها التقديمُ، أو قبلَها جملةٌ عطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره: أَيَعْدِلون عن حكمِك فيبغون حكمَ الجاهلية؟ وقرأ ابن وثاب الأعرج وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن برفع الميم، وفيها وجهان، أظهرُهما:- وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه مبتدأ، و"يبغون" خبره، وعائد المبتدأ محذوفٌ تقديرُه: "يَبْغُونه" حملاً للخبرِ على الصلة. إلا أن بعضهم جعلَ هذه القراءة خطأً، حتى قال أبو بكر بن مجاهد: "هذه القراءةُ خطأ" وغيرُه يجعلُها ضعيفةً، ولا تبلغُ درجة الخطأ، قال ابن جني في قول ابن مجاهد: "ليس كذلك، ولكنه وَجْهُ غيرِه أقوى منه، وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:

1739- قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ

أي: لم أصنعه" قال ابن عطية: "هكذا الراويةُ وبها ويتم المعنى الصحيح، لأنه أرادَ التبرُّؤ من جميع الذنوب، ولو نَصَب "كل" لكان ظاهرُ قوله أنه صنع بعضَه" قالت: هذا الذي ذكره أبو محمد معنى صحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستشهدوا على ذلك بقوله عليه السلام حين سأله ذو اليدين فقال: "أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت؟ فقال: "كلُّ ذلك لم يكن" أرادَ عليه السلام انتفاءَ كلِّ فردٍ فردٍ، وأفاد هذا المعنى تقديمُ "كل" قالوا: ولو قال: "لم يكن كلُ ذلك" لاحتمل الكلام أن البعض غيرُ منفيّ، وهذه المسألة تُسَمَّى عمومَ السلب، وعكسُها نحو: "لم أصنعْ كلَّ ذلك" يُسَمَّى سلبَ العموم، وهذه مسألةٌ مفيدة فأتقنتُها، وإن كان بعضُ الناسِ قد فهم عن سيبويه غيرَ ما ذكرت لك.
ثم قال ابن عطية: "وهو قبيحٌ - يعني حَذْفَ العائد من الخبر - وإنما يُحْذَفُ الضمير كثيراً من الصلة، ويُحْذَفُ أقلَّ من ذلك من الصفة، وحَذْفُه من الخبرِ قبيحٌ" ولكن رجَّح البيتَ على هذه القراءةِ بوجهين، أحدُهما: أنه ليس في صدرِ قوله ألفُ استفهام تطلب الفعل كما هي في "أفحكم"، والثاني: أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة / وهو حرفُ الاطلاق، أعني الياء في "اصنعي" فتضعفُ قراءة مَنْ قرأ "أفحكمُ الجاهلية يبغون" وهذا الذي ذكره ابن عطية في الوجه الثاني كلامٌ لا يعبأ به، وأمَّا الأول فهو قريبٌ من الصواب، لكنه لم ينهضْ في المنعِ ولا في التقبيح، وإنما ينهضُ دليلاً عن الأحسنيَّة أوعلى أن غيرَه أَوْلى منه، وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهم الخلافَ فيها بالنسبة إلى نوعٍ، ونَفَى الخلافَ فيها - بل حكى الإِجماع على الجواز - بالنسبة إلى نوع آخر، فحكى الإِجماعَ فيما إذا كان المبتدأُ لفظَ "كل" أو ما أشبهها في العموم والافتقار، فأمَّا "كل" فنحو: "كلُّ رجلٍ ضربت" وتقويه قراءةُ ابن عامر: { وكلُّ وعد الله الحسنى } ويريد بما أشبه "كلا" نحو: "رجلٌ يقولُ الحقَّ انصرْ" أي: انصُرْه، فإنه عامٌّ ويفتقر إلى صفة، كما أن "كلاً" عامةٌ وتفتقر إلى مضاف إليه، قال: "وإذا لم يكن المبتدأُ كذلك فالكوفيون يَمْنعون حذفَ العائد، بل ينصبون المتقدم مفعولاً به، والبصريون يُجيزون: "زيدٌ ضربتُ" أي ضربته، وذكره القراءةَ. وتعالى بعضُهم فقال: "لا يجوزُ ذلك" وأطلق، إلا في ضرورة شعر كقوله:

1740- وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا بالحقِّ، لا يُحْمَدُ بالباطلِ

قال: "لأنه يؤدي إلى تهيئةِ العامل للعمل وقطعه عنه"، وقد أَتْقَنْتُ هذه المسألةَ وما نُقل فيها في كتابي" شرح التسهيل" فعليك بالالتفات إليه.
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدمين أن يكونَ "يبغون" ليس خبراً للمبتدأ، بل هو صفةٌ لموصوفٍ محذوف وذلك المحذوفُ هو الخبر، والتقدير: { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } وحَذْفُ العائِد هنا أكثرُ لأنه كما تقدَّم يكثُر حَذْفُه من الصلةِ، ودونَه من الصفةِ، ودونَه من الخبر، وهذا ما اختاره ابنُ عطية وهو تخريجٌ ممكنٌ، ونَظَّره بقوله تعالى:
{ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } [النساء: 46] أي: قومٌ يُحَرِّفون" يعني في حذف موصوفٍ وإقامة صفتِه مُقامه، وإلا فالمحذوفُ في الآية المنظَّرِ بها مبتدأٌ، ونظَّرها أيضاً بقوله:

1741- وما الدهرُ إلا تارتانِ: فمنهما أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ

أي: تارةً أموت فيها. وقال الزمخشري: "وإسقاطُ الراجع عنه كإسقاطِه في الصلة، كقوله: { أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [الفرقان: 41] وعن الصفةِ: "في الناس رجُلان: [رجلٌ] أهنْتُ، ورجلٌ أكرمت" أي: رجلٌ أهنته ورجلٌ أكرمته، وعن الحالِ في نحو: "مررت بهند يضرب زيد" قال الشيخ: "إنْ عَنَى التشبيه في الحذف والحسن فليس كذلك لِما تقدَّم ذكرُه، وإن عنى في مطلق الحذفِ فَمَسَلَّم".
وقرأ الأعمش وقتادة: "أَفَحَكَمَ" بفتح الحاء والكاف ونصب الميم، وهو مفردٌ يراد به الجنس لأن المعنى: أحُكَّامَ الجاهلية، ولا بد من حذف مضاف في هذه القراءة هو المُصَرَّحُ به في المتواترة تقديره: أَفَحُكْمَ حُكَّام الجاهليةِ.
والقُرَّاء غيرَ ابنِ عامر على "يَبْغُون" بياء الغيبة نسقاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة. وقرأ هو بتاء الخطاب على الالتفاتِ ليكون أبلغَ في زَجْرهم وَرَدْعِهِم ومباكتته لهم، حيث واجهَهم بهذا الاستفهام الذي يَأْنَفُ منه ذَوُو البصائِر. و"حُكْماً" نصباً على التمييز. وقوله: { لقوم } في هذه [اللام] ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّقَ بنفسِ "حكماً" إذ المعنى أنَّ حكمَ اللَّهِ للمؤمن على الكافر، والثاني: أنا للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوف كهي في "سُقْياً لك"
{ { هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23] وهو رأي الزمخشري، وابن عطية قال شيئاً قريباً منه، وهو أن المعنى: "يُبَيِّن ذلك ويُظْهِرُه لقوم" الثالث: أنها بمعنى "عند" أي: عند [قوم] وهذا ليس بشي. ومتعلَّقُ "يوقنون" يجوز أن يُراد، وتقديرُه: يوقنون بالله وبحكمه، أو بالقرآن، ويجوز ألاَّ يُرادَ على معنى وقوع الإِيقان، وإليه ميلُ الزجاج فإنه قال: "يوقنون: يتبيِِّنون عَدْلَ اللِّهِ في حكمه".