خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ }: قالوا تقديرُه: إذا أردتم القيامَ كقولِه: { { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ } [النحل: 98]، وهذا من إقامة المسبِّب مقام السبب، وذلك أنَّ القيامَ متسبِّبٌ عن الإِرادة والإِرادة سببه.
قال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ جازَ أن يُعَبِّر عن إرادة الفعل بالفعل" قلت: لأن الفعل يوجَدُ بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهي قصدُه إليه وميلُه وخلوصُ داعيتهِ، فكما غَبَّر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: "الإِنسانُ لا يطير، والأعمى لا يبصر" أي: لا يَقْدران على الطير والابصار، ومنه قولُه تعالى:
{ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 104] أي: قادرين على الإِعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل؛ وذلك لأن الفعل مُسَبِّب عن القدرة، فأقيم المُسَبَّب مُقام السببِ للملابسةِ بينهما ولإِيجاز الكلام". وقيل: تقديره: إذا قَصَدْتُم الصلاةَ؛ لأنَّ مَنْ توجَّه إلى شيءٍ وقام إليه كان قاصدا له فعبَّر بالقيام عن القصدِ. والجمهورُ قَدَّروا حالاً محذوفة من فاعل "قمتم"، أي: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين، إذ لا وضوءَ على غير المحِدث، وإن كان قال به جماعة، قالوا: ويدُلُّ على هذه الحالِ المحذوفة مقابلتُها بقوله: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } فكأنه قيل: إنْ كنتم مُحْدِثين الحدثَ الأصغر فاغسِلو كذا وامسَحوا كذا، وإنْ كنتم مُحْدثين الحدثَ الأكبر فاغسلوا الجسدَ كله، وهو مَحَلُّ نظر.
قوله: { إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } في "إلى" هذه وجهان، أحدهما: أنها على بابها من انتهاء الغاية، وفيها حنيئذ خلاف، فقائلٌ: إنَّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، وقائلٌ بعكس ذلك، وقائل: لا تَعَرُّضَ لها في دخولٍ ولا عدَمِه، وإنما يدور الدخولُ والخروج مع الدليل وعدمه. وقائل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم وإلا فلا، ويُعْزى لأبي العباس. وقائل: إنْ كان ما بعدَها من غير جنس ما قبلها لم يَدْخُل، وإن كان من جنسِه فيحتمل الدخولَ وعَدَمه، وأول هذه الأقوالِ هو الأصحُّ عند النحاة. قال بعضُهم: وذلك أنَّا حيث وَجَدْنا قرينةً مع "إلى" فإن تلك القرينةَ تقتضي الإِخراجَ مما قبلها، فإذا وَرَدَ كلامٌ مجردٌ عن القرائن فينبغي أن يُحْمَلَ على الأمر الفاشي الكثير وهو الإِخراج، وفَرَّق هذا القائل بين "إلى" و"حتى" فجعل "حتى" تقتضي الإِدخالَ، و"إلى" تقتضي الإِخراج بما تقدم من الدليل، وهذه الأقوالُ دلائلها في غيرِ هذا الكتاب، وقد أوضَحْتُها في كتابي "شرح التسهيل" والقول الثاني: أنها بمعنى "مع" أي: مع المرافق، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عند قوله:
{ { إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2]. والمرافقُ: جمع "مَرْفِق" بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة، وهو مِفْصَلٌ ما بين العَضْد والمِعْصَم.
قوله: { بِرُؤُوسِكُمْ } في هذه الباء ثلاثةٌ أوجه، أحدها: أنها للإِلصاق أي: أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم. قال الزمخشري: "المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس، وماسحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه" قال الشيخ: "وليس كما ذكر" يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/. وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها. والثاني: أنها زائدةٌ، كقوله:
{ { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [البقرة: 195]، وقوله:

1699- ........... ......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

وهو ظاهرُ كلام سيبويه، فإنه حكى: "خَشَّنْتُ صدرَه وبصدره" و"مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه" بمعنَى واحد، وقال الفراء: "تقول العرب: "خُذِ الخِطامَ وبالخطام" و"هَزَّه وهَزَّ به" و"خُذْ برأسِه ورأسَه" والثالث: أنها للتعيضِ كقوله:

1700- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ ................

وهذا قولٌ ضعيف، وقد تقدَّم القولُ في ذلك أولَ البسملة.
قوله: { وَأَرْجُلَكُمْ } قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم: "أرجلكم" نصباً، وباقي السبعة: وأرجلكم" جراً، والحسن بن أبي الحسن: "وأرجلُكم" رفعاً، فأمَّا قراءة النصب ففيها تخريجان، أحدُهما: أنها معطوفةٌ على "ايديكم" فإنَّ حكمَها الغُسْلُ كالأوجه والأيدي، كأنه قيل: "واغسلوا أرجلكم" إلا أنَّ هذا التخريجَ أفسده بعضُهم بأنه يلزم منه الفصلُ بين المتعاطِفَيْنِ بجملةٍ غير اعتراضية لأنها مُنْشِئَةٌ حمكاً جديداً فليس فيها تأكيد للأول. وقال ابن عصفور- وقد ذكر الفصلَ بين المتعاطِفَيْن -: "وأقبحُ ما يكونُ ذلك بالجمل" فدلَّ قولُه على أنه لا يجوزُ تخريجُ الآية على ذلك. وقال أبو البقاء عكسَ هذا فقال: "وهو معطوفٌ على الوجوه" ثم قال "وذلك جائزٌ في العربية بلا خلاف" وجَعَلَ السنِّيَّة الواردة بغسل الرجلين مقويةً لهذا التخريج، وليس بشيء، فإنَّ لقائل أن يقول: يجوز أن يكون النصب على محلِّ المجرور وكان حكمُها المسحَ ولكن نُسِخ ذلك بالسنَّة وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء. والثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على محل المجرور قبله، كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك.
وأمَّا قراءةُ الجر ففيها أربعةُ تخاريجَ، أحدها: أنه منصوبٌ في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنما خُفض على الجوار، كقولهم: "هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ" بجر "خرب" وكان مِنْ حَقِّه الرفعُ لأنه صفة في المعنى للجحر لصحة اتصافه به، والضَّبُّ لا يوصف به، وإنما جَرُّه على الجوار، وهذه المسألة عند النحويين لها شرط وهو أن يُؤْمَنَ اللبس كما تقدم تمثيله، بخلاف: "قام غلام زيد العاقل" إذا جعلت "العاقل" نعتاً للغلام امتنع جَرُّه على الجوار لأجل اللَّبْس، وأنشد أيضاً قول الشاعر:

1701- كأنما ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعينِها قُطْناً بمستحصِدِ الأوتارِ مَحْلوجِ

وقول الآخر:

1702- فأياكم وَحيَّةَ بَطْنِ وادٍ هموزٍ النابِ ليس لكم بِسِيِّ

وقول الآخر:

1703- كأن ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِه كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ

وقول الآخر:

1704- كأنَّ نَسْجَ العنكبوتِ المُرْمَل

بجر "محلوج" وهو صفةٌ لـ"قطنا" المنصوبِ، وبجر "هموز" وهو صفة لـ"حية" المنصوبِ، وبجر "المزمل" وهو صفة "كبير" لأنه بمعنى الملتف، وبجرِّ"المُرْمل" وهو صفة "نَسْج"، وإنما جُرَّت هذه لأجلِ المجاورِة، وقرأ الأعمش: { إنَّ الله هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ } بجر المتين مجاورَةً لـ"القوة" وهو صفةٌ لـ"الرزاق"، وهذا وإن كان وارداً، إلا ان التخريجَ عليه ضعيفٌ لضَعْفِ الجوارِ من حيث الجملةُ، وأيضاً فإنَّ الخفضَ على الجوارِ إنما وَرَدَ في النعتِ لا في العطف، وقد وَرَدَ في التوكيدِ قليلاً في ضرورة الشعر، قال:

1705- يا صاحِ بَلَّغ ذوي الزوجاتِ كلِّهمِ أَنْ ليسَ وَصْلٌ إذا انْحَل‍َّتْ عُرَى الذَّنَبِ

بجر "كلهم" وهو توكيدٌ لـ"ذوي" المنصوب، وإذا لم يَرِد إلا في النعت أو ما شَذَّ من غيره فلا يينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله تعالى، وهذه المسألةُ قد أوضَحْتُها وذكرت شواهدها في "شرح التسهيل" وممن نَصَّ على ضعفِ تخريجِ الآية على الجوارمكي بن أبي طالب وغيرُه، قال مكي: "وقال الأخفش وأبو عبيدة: "الخفضُ فيه على الجوار، والمعنى للغسل" وهو بعيد لا يُحْمل القرآن عليه" وقال أبو البقاء "وهو الإِعرابُ الذي يقال: هو على الجوار، وليس بممتنع أن يقع في القرآن لكثرته فقد جاء في القرآن والشعر، فَمِنَ القرآن قولُه تعالى: { { وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة: 22] على قراءة مَنْ جَرَّ، وهو معطوفٌ على قوله: { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } وهو مختلفُ المعنى، إذ ليس المعنى: يَطُوف عليهم وِلْدان مخلَّدون بحورٍ عين. وقال النابغة:

1706- لم يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غيرُ مُنْفَلِتٍ أو مُوْثَقٍ في حبال القومِ مَجْنُوبِ

والقوافي مجرورةٌ، والجوارُ مشهورٌ عندهم في الإِعراب" ثم ذكر أشياء كثيرةً زعم أنها مقويةٌ لمُدَّعاه، منها: قَلْبُ الإِعراب في الصفات كقوله تعالى: { { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [هود: 84] واليومُ ليس بمحيطٍ، وإنما المحيط [هو] العذابُ، ومثلُه قولُه تعالى: { { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [إبراهيم: 18] و"عاصف" ليس في صفة اليوم بل من صفة الريحِ. ومنها: قَلْبُ بعض الحروف إلى بعض كقول عليه السلام: "ارجَعْنَ مَأْزوارتٍ غيرَ مأجورات" والأصل: "مَوْزورات"، ولكنْ أُريد التواخي، وكذلك قولُهم: "إنه ليأتينا بالغدايا والعَشايا" ويعني أنَّ الأصلَ: "بالغَدَاوى" لأنها من الغُدْوة، ولكن لأجل "ياء" العشايا" جاءت بالياء دون الواو. ومنها: تأنيثُ المذكر كقوله تعالى: { { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160] فحذف / التاءَ منْ "عشر" وهي مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى عليها حكمَه، وكذلك قوله:

1707- لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ

وقولهم: "ذَهَبَتْ بعضُ أصابعِه" يعني أنَّ "سور" مذكرةٌ" و"بعض" أيضاً كذلك، ولكنْ لَمَّا جاورا المؤنثَ أُعْطيا حكَمه. ومنها: "قامت هند" لَمَّا لم يَفْصِلوا أتوا بالتاء، ولمَّا فَصَلوا لم يأتوا بها، ولا فرق إلا المجاورةُ وعدمُها: ومنها: استحسانُهم النصبَ في الاشتغال بعد جملةٍ فعلية في قولهم: "قام زيدٌ وعمراً كلمته" لمجاورةِ الفعل. ومنها: قَلْبُهم الواوَ المجاورَة للطرفِ همزةً نحو: "أوئل" بخلاف "طواويس" لبُعْدِها من مجاورةِ الطرف. قال: "وهذا موضعٌ يَحْتمل أن يكتب فيه أوراقٌ من الشواهدِ، قد بَوَّب النحويون له باباً ورتَّبوا عليه مسائلَ وأصَّلوه بقوله: "هذا جُحْرِ ضبٍ خربٍ" حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع، فأجاز الاتباعَ فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المفرد المسموع، ولو كان لا وجهَ له بحالٍ لاقتصروا فيه على المسموع فقط، ويتأيد ما ذكرناه أنَّ الجرَّ في الآية قد أجيز غيره - وهو الرفع والنصب - والرفع والنصب غير قاطعين ولا ظاهرين على أنَّ حكمَ الرِجْلين المسحُ، فكذلك الجرُّ يجب أن يكونَ كالنصب والرفعِ في الحكم دون الإِعراب" انتهى.
أمَّا قوله: "إنَّ{ وَحُورٌ عِينٌ } من هذا الباب فليس بشيء، لأنه: إمَّا [أن] يقدَّر عطفهُما على ما تقدم بتأويلٍ ذكره الناس كما سيتأتي أو بغير تأويل، وإما أن لا يعطفَهما، فإنْ عَطَفَهما على ما تقدم وجب الجر، وإن لم يعطفهما لم يَجُز الجر، وأمّا جَرُّهما على ما ذكره الناس فقيل: لعطفهما على المجرور بالباء قبلهما على تضمين الفعلِ المتقدم "يتلذذون ويَنْعَمون بأكواب وكذا وكذا" أولا يُضَمَّن الفعلُ شيئاً ويكون لطواف الوالدانِ بالحورِ العين على أهل الجنة لذاذة لهم بذلك، والجواب إنما يكونُ حيث يستحقُ الاسمُ غيرَ الجر فيُجَرُّ لمجاورةِ ما قبله، وهذا - كما ترى - قد صَرَّح هو به أنه معطوفٌ على "بأكواب" غايةُ ما في الباب أنه جَعَلَه مختلفَ المعنى، يعنى أنه عنده لا يجوزُ عطفُهما على "بأكواب" إلا بمعنى آخرَ وهو تضمينُ الفعل، وهذا لا يَقدَحُ في العطفية. وأما البيتُ فجرُّ "موثقٍ" ليس لجواره" لـ"منقلتٍ" وإنما هو مراعات للمجرور بـ"غير"، لأنهم نَصُّوا على أنك إذا جئت بعد "غير" ومخفوضها بتابعٍ جاز أن يَتْبع لفظَ "غير" وأن يَتبع المضاف إليه، وأنشدوا البيت، ويروى: "لم يبق فيها طريدٌ غيرُ منفلتٍ" وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاوره التي تؤثر في تغيير الإِعراب، وقد تقدَّم أن النحويين خَصَّصوا ذلك بالنعت وأنه قد جاء في التوكيد ضرورةً.
التخريج الثاني: أنه معطوفٌ على "برؤوسكم" لفظاً ومعنى، ثم نُسِخ ذلك بوجوبِ الغسل، أو هو حكمٌ باقٍ، وبه قال جماعة، أو يُحمل مسحُ الأرجلِ على بعضِ الأهوال وهو لُبْسُ الخفِّ، ويُعزى للشافعي. التخريج الثالث: انها جُرَّت مَنْبَهَةً على عدم الإِسراف باستعمال الماء لأنها مَظَنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيراً، فَعَطَفَتْ على الممسوح، والمرادُ غَسْلُها لِما تقدم، وإليه ذَهَب الزمخشري. قال: "وقيل: "إلى الكعبين" فجيء بالغاية إماطة لظنَّ ظانَّ يَحْسَبُها ممسوحة، لأنَّ المسح لم تُضْرب له غايةٌ في الشريعة" وكأنه لم ترتضِ هذا القول الدافعَ لهذا الوهمِ وهو كما قال. التخريج الرابع: أنها مجرورةٌ بحرفِ جرٍ مقدرٍ دَلَّ عليه المعنى، ويتعلَّق هذا الحرفُ بفعلٍ محذوفٍ أيضاً يليق بالمحل، فيُدَّعى حذفُ جملةٍ فعلية وحَذْفُ حرفِ جر، قالوا: وتقديرُه: "وافعَلُوا بأرجلِكم غسلاً".
قال أبو البقاء: "وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله:

1708- مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها

وقال الآخر:

1709- بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائِيا

فجُرَّ بتقديرِ الباء، وليس بموضعِ ضرورةٍ، وقد أَفْرَدْتُ لهذه المسألةِ كتاباً" قوله: "وإبقاء الجر" ليس على إطلاقهِ، وإنما يَطَّرد منه مواضعُ نصَّ عليها أهلُ اللسانِ ليس هذا منها، وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النحاة يسمى "العطف على التوهُّم" يعني كأنه توهَّم وجودَ الباء زائدةً في خبر "ليس" لأنها يكثُر زيادتُها، ونَظَّروا ذلك بقوله تعالى: { { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون: 10] بجزم "أَكُنْ" عطفاً على "فأصَّدَّق" على توهُّم سقوط الفاء من "فأصَّدَّق" نَصَّ عليه سيبويه وغيرُه، فظهرَ فساد هذا التخريج.
وأمَّا قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي: وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة على ما تقدم في حكمها. والكلام في قوله: "إلى الكعبين" كالكلام في "إلى المرفقين". والكعبان فيهما قولان مشهوران، أشهرهما: أنهما العَظْمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، في كل رِجْلٍ كعبان. والثاني: أنه العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شِراك النعل، ومرادُ الآية هو الأول. والكعبة: كلُّ بيتٍ مربع، وسيأتي بيانُه في موضعِه.
قوله: "منه" في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً بـ"امسحوا" و"مِنْ" فيها وجهان أظهرهما: أنها للتبعيض. والثاني: انها لا بتداء الغايةِ، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ. وقوله: "ليجعلَ" الكلامُ في هذه اللامِ كالكلامِ عليها في قوله:
{ { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [النساء: 26]، إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعولَ الإِرادة محذوفاً وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ "ليجعلَ" زاد "مِنْ" في الإِيجاب في قوله "من حرج"، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعاً على فعل الحرج. و"من حرج" مفعول "ليجعل" والجعلُ يحتمل أنه بمعنى الإِيجاد والخَلْق فيتعدى لواحد وهو "من حرج" و"مِنْ" مزيدةٌ فيه، كما تقدم، ويتعلق عليكم حينئذ بالجعل / ويجوز أن يتعلق بـ"حرج" فإن قيل: هو مصدرٌ، والمصدرُ لا يتقدَّم معمولُه عليه. قيل: ذلك في المصدر المؤول بحرفٍ مصدري وفعل لأنه بمعنى الموصول، وهذا ليس مؤولاً بحرف مصدري، ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيكون "عليكم" هو المفعولَ الثاني.
قوله: { عَلَيْكُم } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلق بـ"يتم". والثاني: "أنه متعلقٌ بـ"نعمته" والثالث: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "نعمته" ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله:
{ { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3] حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه. قال الزمخشري "وقرئ فَأَطْهِروا أي: أَطْهروا أبدانَكم، وكذلك: "ليُطْهِركم" يعين أنه قُرِئ: "أَطِهِروا" أمراً من أَطْهَر رباعياً كَأَكْرم، ونسب الناسُ القراءة الثانية - أعني قوله "لِيُطهِرَكم" ـ لسعيد بن المسيب.