خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
-المائدة

الدر المصون

وقرأ أبو السمَّال: "ولُعنوا" بسكون العين، وحَسَّن تخفيفَها هنا كونُها كسرةً بين ضمتين، ومثلُه قولُ الآخر:

1762- لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ

والظاهر أن الضميرَ في "كانوا" عائدٌ على الأحبار والرهبان، ويجوز أن يعودَ على المتقدمين.
وقول تعالى حكايةً عن اليهود: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } فيه قولان، أحدُهما: أنه خبرٌ مَحْضٌ. وزعم بعضُهم أنه على تقديرِ همزةِ استفهام تقديره: "أيدُ اللَّهِ مغلولةٌ"؟ قالوا ذلك لَمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم، ولا يحتاجون إلى هذا التقدير. و"بما قالوا" الباء للسببية أي: لُعنوا بسببِ قولِهم، و"ما" مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية والعائدُ محذوف. وغَلُّ اليدِ وبسطُها هنا استعارةٌ للبخل والجود، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العرب ملآنُ من ذلك. قالت العرب: "فلانٌ ينفق بكلتا يديه" قال:

1763- يداك يدا مجدٍ، فكفٌّ مفيدةٌ وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ

وقال آخر هو ابو تمام:

1764- تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ

وقد استعارت العربُ ذلك حيث لا يدَ البتة، ومنه قولُ لبيد:

1765- .............. إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها

وقال آخر:

1766- جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ

وقالوا: "بَسَطَ اليأسُ كفَّيه في صدري" واليأسُ معنًى لا عينٌ، وقد جعلوا له كَفَّين مجازاً. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: لِمَ ثُنِّيت اليد في "بل يداه مبسوطتان" وهي في "يَدُ اللَّهِ مغلولةٌ" مفردةٌ؟ قلت: ليكونَ ردُّ قولِهم وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثباتِ غايةِ السخاء له ونَفْيِ البخل عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السخيُّ من ماله بنفسِه أن يعطيَه بيديه جميعاً فبنى المجازَ على ذلك" وقوله: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ } يحتمل الخبرَ المحضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعاءُ عليهم. وفي مصحف عبد الله: "بُسُطان" يقال: "يدٌ بُسُط" على زنة "ناقة سُرُح" و"أُحُد" و"مِشْية سُجُع"، أي: مبسوطة بالمعروف، وقرأ عبد الله: "بسيطتان" يقال: يد بسيطة أي: مُطْلَقَةٌ بالمعروف.
قوله: { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنْ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مستأنفة والثاني: أنها في محلِّ رفع لأنها خبر ثان لـ "يداه" والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في "مبسوطتان" وعلى هذين الوجهين فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال أي: ينفق بهما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ. وقال أبو البقاء: "ينفق كيف يشاء" مسأنفٌ، ولا يجوزُ ان يكونَ حالاً من الهاء - يعني في "يداه" - لشيئين، أحدُهما: أنَّ الهاءَ مضاف إليها. والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِل بينهما: ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً من اليدين، إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما" قلت: قوله: "أحدُهما: أنَّ الهاء مضاف إليها" ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحال من المضافِ إليه إذا لم يكن المضاف جزءاً من المضافِ إليه أو كجزئه أو عاملاً فيه وهذا من النوع الأول فلا مانع فيه. وقوله: "والثاني: أن الخبرَ يَفْصِل بينهما" هذا أيضاً ليس بمانع، ومنه:
{ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [هود: 72] إذا قلنا إن "شيخاً" حالٌ من اسم الإِشارة، والعاملُ فيه التنبيه. وقوله: "إذ ليس فيها ضمير" قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر، أي: ينفق بهما.
الرابع: أنها حالٌ من "يداه" وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحال من المبتدأ - ووجهُ المنعِ أنَّ العامل في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبها أمرٌ معنوي لا لفظيٌ وهو الابتداء، وهذا على أحدِ الأقوال في العاملِ في الابتداء. الخامس : أنها حال من الهاء في "يداه" ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاء لِمَا تقدَّم من تصحيحِ ذلك.
و"كيف" في مثلِ هذا التركيبِ شرطيةٌ نحو: "كيف تكون أكون" ومفعولُ المشبه محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعلِ السابق لـ "كيف" والمعنى: ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق، ويبسطُ في السماء كيف يشاء أن يبسطَه يبسطه، فحذف مفعول "يشاء" وهو "أَنْ" وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول "يشاء" و"يريد" لا يُذْكران إلا لغرابتهِمها، وحَذَفَ أيضاً جوابَ "كيف" وهو "ينفق" المتأخرُ "ويبسط" المتأخرُ لدلالة "ينفق ويبسط" الأولين، وهو نظيرُ قولك: "أقوم إنْ يقم زيد"، ولا جائزٌ أن يكونَ "ينفق المتقدُم عاملاً في "كيف" لأنَّ لها صدرَ الكلامِ، ومالَه صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف. وقال الحوفي: "كيف" سؤالٌ عن حال، وهي نصبٌ بـ "يشاء" قال الشيخ "ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سؤالاً عن حال" قلت: وقد تقدم الكلام عليها مشبعاً عند قولِه:
{ يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } [آل عمران: 6]، وذكرنا عبارةَ الناس فيها.
قوله: { مَّآ أُنزِلَ } "ما" هنا موصولةٌ اسمية في محل رفع، لأنها فاعل بقوله: { وَلَيَزِيدَنَّ } ولا يجوزُ ان تكونَ "ما" مصدريةً، و"إليك" قائمٌ مقام الفاعل لـ "أُنْزل" ويكون التقديرُ: "وليزيدَنَّ كثيراً الإِنزالُ إليك" لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل، والذي يزيدهم إنما هو المُنَزَّل لا نفسُ الإِنزال. وقوله: "منهم" صفةٌ لـ "كثيراً" فيتعلَّقُ بمحذوف و"طغياناً" مفعولٌ ثان لـ "يَزيد" وقوله: { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } متعلقٌ بـ "أَلْقينا"، ويجوز أن يتعلَّق بقوله: "والبغضاء" اي: إنَّ التباغضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ لئلا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالأجنبي وهو المعطوفُ، وعلى هذا فلا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازع، لأن شرطَه تسلُّطُ كلٍ من العاملين، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور. وقد نَقَل بعضُهم أنه يجوز التنازع في فِعْلَي التعجب مع التزامِ إعمالِ الثاني؛ لأنه لا يُفْصَلِّ بين فعل التعجب ومعمولِه، وهذا مثلُه، أي: يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارج عن قياسِ التنازع، وتقدَّم لك نظيره. والفرقُ بين العداوة والبغضاء أن العداوة كل شيء مشتهر يكون عنه عملٌ وحرب، والبغضاء لا تتجاوزُ النفوس، قال ابن عطية وقال الشيخ: "العداوةُ أخَصُّ من البغضاء لأنَّ كل عدو مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ ليس بعدو".
قوله: { لِّلْحَرْبِ } فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بـ "أوقدوا" أي: أوقدوها لأجل الحرب. والثاني: أنه صفة لـ "نارا" فيتعلق بمحذوف، وهل الإِيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و"أطفأها الله" جواب "كلما" وهو أيضاً حقيقة أو مجاز على حَسَب ما تقدم. وقوله:
{ { فَسَاداً } [المائدة: 33] قد تقدم نظيره، وأنه يجوز أن يكونَ مصدراً من المعنى، وحينئذ لك اعتباران، أحدهما: ردُّ الفعل لمعنى المصدر. والثاني: ردُّ المصدر لمعنى الفعل، وأن يكون حالاً أي: يَسْعَوْن سَعْيَ فساد، أو: يفسدون بسعيهم فساداً، أو: يَسْعَوْن مفسدين، وأن يكونَ مفعولاً من أجله: أي: يَسْعَوْن لأجل الفساد. والضميرُ في "بينهم" يجوز أن يعود على اليهودِ وحدَهم لأنه فِرَقٌ مختلفةٌ وطوائفُ متشعبةٌ، وأَنْ يعودَ على اليهود والنصارى لتقدُّم ذكرهم في قولِه تعالى: { { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ } [المائدة: 51]، ولا ندراجِ الصنفين في قوله: { { قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [المائدة: 59]، والألفُ واللام في "الأرض" يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكون للعهد.