خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٨٢
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ }: قد تقدَّم إعرابُ هذا في نحو قوله تعالى: { { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَٰوةٍ } [البقرة: 96]، فَأَغَنَى عن إعادته / وقال ابنُ عطية: "اللامُ للابتداءِ"، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتَلَقَّى بها القسمُ. و"أشدَّ الناس" مفعول أول، و"عداوةً" نصب على التمييز. و"للذين" متعلقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ لَمَّا كانت فرعاً في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، فهي كقولهِ:

1790- ........... ورهبةٌ عقابَك..............

ويجوزَ أن يكونَ "للذين" صفةً لـ "عداوة" فيتعلَّقَ بمحذوف، و"اليهودَ" مفعولٌ ثانٍ. وقال أبو البقاء: "ويجوُ أن يكونَ اليهود هو الأولَ، و"أشدَّ" هو الثاني، وهذا هو الظاهرُ، إذ المقصودُ أَنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركين بأنَّهم أشدٌّ الناسِ عداوة للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناسِ مودةً لهم، وليس المرادُ أَنْ يخبرَ عن أشدِّ الناس وأقربهم بكونِهم من اليهودِ والنصارى. فإن قيل: متى استويا تعريفاً وتنكيراً وَجَب تقديمُ المفعولِ الأولِ وتأخيرُ الثاني كما يجب في المبتدأ والخبرِ وهذا من ذاك. فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث أَلْبس، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك جاز التقديمُ والتأخيرُ ومنه قوله:

1791- بَنُونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ

فـ "بنوا أبناء" هو المبتدأ، و" بَنُونا" خبره، لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء، ومثلُه قول الآخر:

1792- قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها وأَغْدُر الناسِ بالجيرانِ وافِيها

أكرمُها" هو المبتدأُ، و"ألأمُ الأحياءِ" خبرُه، وكذا "وافيها" مبتدأ و"أغدرُ الناس" خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذه القبيلِ فيما ذَكَرْتُ لك.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } عطفٌ على اليهود، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها. و"ذلك بأنَّ" مبتدأٌ وخبرُ، وتقدم تقريره، و"منهم" خبر "أنَّ" و"قسيسين" اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محل جَرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر "ذلك" والقسيسين جمع "قِسِّيس" على فِعِّيل، وهو مثالُ مبالَغَة كـ "صِدِّيق" وقد تقدَّم وهو هنا رئيسُ النصارى وعابُدهم، وأصلُه من تَقَسِّسَ الشيءَ إذا تَتَّبَعَه وطَلَبه بالليل، يقال: "تقسَّسْتُ أصواتَهم" أي: تَتَبَّعْتُها بالليلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسّ وقِسّيس، وللدليلِ بالليل: قَسْقَاس وقَسْقَس، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّي عالُم النصارى لتتبُّعِه العلمَ. قال رؤبه بن العجاج:

1793- أَصْبَحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا يَمْشِين هَوْناً خُرُداً بَهالِلا

ويقال: قَسَّ الأثرَ وقَصَّه بالصاد أيضاً، ويقال: قَسّ وقِسّ بفتح القاف وكسرها، وقِسِّيس. وزعم ابن عطية أنه أعجمي مُعَرَّب. وقال الواحدي: "وقد تكلمت العرب بالقَسّ والقِسّيس" وأنشد المازني:

1794- لو عَرَضَتْ لأيْبُلِيٍّ قَسِّ اشعثَ في هيكلهِ مُنْدَسِّ

حَنَّ إليها كحنينِ الطَسِّ

وأنشد لأمية بن أبي الصلت:

1795- لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ يُحْيِيهم الَّهُ في أَيْديهم الزُّبُرُ

هذا كلامُ أهل اللغة في القِسّيس، ثم قال: "وقال عروة بن الزبير: "ضَيَّعَتِ النصارى الإِنجيل وما فيه، وبقي منهم رجلٌ يُقال له قسيساً" يعني بقي على دينِه لم يُبَدِّلْه، فَمَنْ بقي على هديِة ودينِه قيل له "قِسِّيس" وقال قطرب: "القَسّ والقِسّيس: العالم بلغة الروم، قال ورقة:

1796- لما خَبَّرْتَنا مِنْ قولِ قَسٍّ من الرهبانِ أكرُه أَنْ يَبُوحا

فعلى هذا القَسُّ والقِسٍيس مما اتفق فيه اللغتان. قلت: وهذا يُقَوّي قولَ ابن عطية، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ "القُس" بضم القاف لا مصدراً ولا وصفاً، فأما قُسّ بن ساعدة الإِيادي فهو عَلمَ فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّر بطريق العلَمية، ويكون أصلُه قَسّ أو قِسّ بالفتح أو الكسر كما نَقَله ابن عطية وقُسُّ بن ساعدة كان أعلمَ أهلِ زمانه، وهو الذي قال فيه عليه السلام: "يُبْعَثُ أمةً وحدَه" وأمَّا جمعُ قِسّيس فجمعُ تصحيحٍ كما في الآية الكريمة. قال الفراء: "ولو جُمِع "قَسُوساً" كان صواباً لأنهما في معنى واحد" يعني: "قِسّاً" و"قسِيساً" قال: "ويُجْمَعُ القِسّيس على "قساوِسَة" جمعوه على مثال المَهالِبَة، والأصلُ: قساسِسَة، فكثُرت السينات / فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً، وأنشدوا لأمية: "لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ" البيت. قال الواحدي: "والقُسوسة مصدرُ القِسّ والقِسِّيس" قلت: كأنه جَعَل هذا المصدرَ مشتقاً من هذا الاسمِ كالأبوّة والأخوّة والفتوّة من لفظ أب وأخ وفتى، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن القَسّ بالفتحِ في الاصل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّي به مبالغةً، ولا أدري ما حملَ مَنْ قال: إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما عَرَفْتَه مِمَّا تقدم؟
والرُّهْبان: جمعُ راهبٍ كراكب ورُكْبان، وفارِس وفُرْسان. وقال أبو الهيثم. "إنَّ رهباناً يكون واحداً ويكون جمعاً" وأنشد على كونِه مفرداً قولَ الشاعر:

1797- لو عايَنَتْ رهبانَ دَيْرٍ في القُلَلْ لأَقْبَلَ الرُّهبانُ يَعُدُوا ونَزَلْ

ولو كان جمعاً لقال: "يَعُدُون" و"نَزَلُوا" بضمير الجمع. وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عادَ ضميرُ المفرد على الجمعِ الصريحِ لتأوُّله بواحدٍ كقوله تعالى: { { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [النحل: 66] فالهاء في "بطونه" تعود على الأنعام، وقال:

1798- وطابَ البانُ اللِّقاحِ وبَرَدْ

في "برد" ضميرٌ يعودُ على "أَلْبان" وقالوا: "هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه". وقال الآخر:

1799- لو أنَّ قوميَ حين أَدْعُوهمْ حَمَلْ على الجبالِ الشُّمِّ لانهدَّ الجَبَلْ

إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذِكْرُه، ومن مجيئِه جمعاً الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآن الكريم إلا جَمْعاً، وقال كثّير:

1800- رُهْبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ يبكون من حَذَرِ العقابِ قُعودا

لو يَسْمعون كما سَمِعْتُ كلامَها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا

قيل: ولا حُجَّة فيه لأنه قال: "والذين" فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمع لأجلِ هذا الجمعِ لا لكونِ رُهبان" جمعاً، وأصرحُ مِنْ هذا قولُ جرير:

1801- رُهبانُ مَدْيَنَ لو رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفادِرِ

قال ابن الهيثم: "وإن جُمِع الرهبان الواحدُ "رَهابين ورهابِنة" جاز، وإنْ قلت: رهبانيون كان صواباً كأنك تَنْسُبُه إلى الرهبانية، والرهبانية من الرَّهْبَة وهي المخافَةُ، وقال الراغب"والرُهبانُ يكونَ واحداً وجمعاً، فَمَنْ جَعَلَه واحداً جَمَعَه على رَهابين، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ" يعني أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفرازِنَة والموازِجَة والكيالِجة وقال الليث: "الرهبانيِّةُ مصدرُ الراهبِ والترهُّبِ: التعبُّد في صومعة"، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدم في ان القَسْوَسة مصدرٌ من القَسّ والقِسّيس، ولا حاجةَ إلى هذا بل الرهبانيةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّب وهو التعبد أو من الرَّهَب وهو الخوف، ولذلك قال الراغب: "والرهبانيةُ غلوُّ مَنْ تحمَّل التعبُّدَ مِنْ فرطِ الرَّهْبَة" وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله: { { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [البقرة: 40].
قوله تعالى: { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على "أنَّ" المجرورةِ بالباء أي: ذلك بما تقدَّم وبأنَّهم لا يستكبرون.