خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
١١٣
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { وَلِتَصْغَىۤ }: في هذهِ اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لامُ كي والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ. وفيما يتعلَّق به احتمالان: الاحتمال الأول أن يتعلق بيُوحي على أنها نَسَقٌ على "غروراً"، وغروراً مفعول له والتقدير: يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ للغرور وللصَّغْو، ولكن لمَّا كان المفعول له الأول مستكمِلاً لشروط النصب نُصِب، ولما كان هذا غيرَ مستكملٍ للشروط وَصَلَ الفعلُ إليه بحرف العلة، وقد فاته من الشروط كونُه لم يتَّحد فيه الفاعل، فإنَّ فاعلَ الوحي "بعضهم" وفاعلَ الصَّغْو الأفئدة، وفات أيضاً من الشروط صريحُ المصدرية. والاحتمالُ الثاني: أن يتعلَّق بمحذوف متأخرٍ بعدها، فقدَّره الزجاج: ولتَصْغى إليه فَعَلُوا ذلك، وكذا قدَّرَه الزمخشري فقال: "ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا الزمخشري فقال: "ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيّ عدُوَّاً، على أن اللام لام الصيرورة".
الوجه الثاني:/ أن اللام لام الصيرورة وهي التي يعبرون عنها بلام العاقبة، وهو رأيُ الزمخشري كما تقدَّم حكايته عنه أيضاً.
الوجه الثالث: أنها لامُ القسم. قال أبو البقاء: "إلا أنها كُسِرَتْ لمَّا لم يؤكِّد الفعل بالنون" وما قاله غيرُ معروفٍ، بل المعروفُ في هذا القول أنَّ هذه لامُ كي، وهي جواب قسم محذوف تقديره: والله لَتَصْغَى فوضع "لِتَصْغَى" موضع لَتَصْغَيَنَّ، فصار جواب القسم من قبيل المفرد كقولك: "واللهِ لَيقومُ زيدٌ" أي: أحلفُ بالله لَقيامُ زيد، هذا مذهبُ الأخفش وأنشد:

2034ـ إذا قلتُ قَدْني قال بالله حَلْفَةً لِتُغْنِيَ عني ذا إنائك أجمعا

فقوْله "لتُغْني" جوابُ القسم، فقد ظهر أن هذا القائل يقول بكونها لامَ كي، غايةُ ما في الباب أنها وقعت موقع جواب القسم لا أنها جواب بنفسها، وكُسِرَتْ لَمَّا حَذَفَتْ منها نون التوكيد، ويدلُّ على فساد ذلك أن النونَ قد حُذِفَتْ، ولامَ الجواب باقيةٌ على فتحها قال:

2035ـ لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ

فقوله "لَيَعْلَمُ" جوابُ القسم الموطَّأ له باللام في "لِئنْ"، ومع ذلك فهي مفتوحةٌ مع حَذْفِ نون التوكيد، ولتحقيقِ هذه المسألةِ مع الأخفش موضوعٌ غيرُ هذا.
والضمير في قوله "ما فعلوه" وفي "إليه" يعود: إمَّا على الوحي، وإمَّا على الزخرف، وإمَّا على القول، وإمَّا على الغرور، وإمَّا على العداوة لأنها بمعنى التعادي. ولتصغى أي تميل، وهذه المادة تدل على الميل ومنه قولُه تعالى
{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 5] وفي الحديث: "فأصغى لها الإِناء" ، وصاغِيَةُ الرجل قرابتُه الذين يميلون إليه، وعين صَغْوى أي: مائلة، قال الأعشى:

2036ـ ترى عينها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤْقِها تُراقب في كَفِّي القطيعَ المحرَّما

والصَّغا: مَيْلٌ في الحَنَك والعين، وصَغَت الشمس والنجوم: أي مالت للغروب. ويقال: صَغَوْتُ وصَغِيْتُ وصَغَيْتُ، فاللام واو أو ياء، ومع الياءِ تُكْسَرُ غين الماضي وتُفْتَحُ. قال الشيخ: "فمصدرُ الأول صَغْوٌ، والثاني صُغِيٌّ، والثالث صَغَاً، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين" قلت: قد حكى الأصمعي في مصدر صَغَا يَصْغُو صَغَاً، فليس "صَغَاً" مختصاً بكونِه مصدراً لـ "صَغِي" بالكسر. وزاد الفراء "صُغِيَّاً" و "صُغُوَّاً" بالياء والواو مُشَدَّدتين. وأمَّا قولُه "ومضارعُها أي مضارع الأفعال الثلاثة يَصْغَى بفتح العين، فقد حكى أبو عبيد عن الكسائي صَغَوْتُ أصغو، وكذا ابن السكيت حكى: صَغَوْتُ أَصْغُو، فقد خالفوا بين مضارعِها، وصَغَوْت أَصْغُو هو القياس الفاشي، فإنَّ فَعَل المعتل اللام بالواو قياسُ مضارعِه يَفْعُل بضم العين. وقال الشيخ أيضاً: "وهي ـ يعني الأفعال الثلاثة ـ لازمة" أي؛ لا تتعدَّى، وأصغى مثلُها لازم، ويأتي متعدِّياً فتكون الهمزة للنقل، وأنشد على "أَصْغَى" اللازم قول الشاعر:

2037ـ ترى السَّفيهَ به عن كل مُحْكِمَةٍ زَيْغٌ وفيه إلى التشبيه إصغاء

قلت: ومثلُه قول الآخر:

2038ـ تُصْغِي إذا شدَّها بالرَّحْلِ جانحةً حتى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ

وتقول: أصغى فلانٌ بأذنه إلى فلان. وأنشد على "أصغى" المتعدي قول الآخر:

2039ـ أَصاخَ مِنْ نَبْأَةٍ أَصْغى لها أُذُنَاً صِماخُها بدخيس الذوق مستور

قلت: وفي الحديث "فأصغى لها الإِناء" ، وهذا الذي زعمه مِنْ كون صغَى أو صَغِيَ أو صَغَا يكون لازماً غير موافق عليه، بل قد حكى الراغب أنه يقال: صَغَيْتُ الإِناء وأصغيتُه، وصَغِيت بكسر الغين يحتمل أن يكون من ذوات الياء، ويحتمل أن يكون من ذوات الواو، وإنما قُلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كقَوِي وهو من القوة. وقراءة النخعي والجراح بن عبد الله: "ولِتُصْغَى" من أصغى رباعياً وهو هنا لازم.
وقرأ الحسن: "وَلْتَصْغى ولْيَرْضَوْه/ ولْيقترفوا" بسكون اللام في الثلاثة. وقال أبو عمر الداني: "قراءة الحسن إنما هو "ولِتَصْغِي" بكسر الغين" قلت: فتكون كقراءة النخعي. وقيل: قرأ الحسن "ولِتصغى" بكسر اللام كالعامة، ولْيرضوه ولْيقترفوا بسكون اللام، وخَرَّجوا تسكين اللام على أحد وجهين: إمَّا أنها لام كي وإنما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع ما بعدها مُجْرى كَبِد ونَمِر، قال ابن جني: "وهو قويٌّ في القياس شاذٌّ في السماع". والثاني: أنها لام الأمر، وهذا وإن تَمَشَّى في ليرضوه وليقترفوا فلا يتمشَّى في "ولتصْغَى" إذ حرفُ العلة يحذف جزماً. قال أبو البقاء: "وليست لامَ الأمر لأنه لم يُجْزم الفعل". قلت قد ثبت حرفُ العلَّة جزماً في المتواتر فمنها: "أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَرْتَعي وَيَلْعَبْ" { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ } [يوسف: 90]
{ { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6] { لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ } [طه: 77]، وفي كل ذلك تأويلاتٌ ستقفُ عليها إن شاء الله تعالى فلتكنْ هذه القراءة الشاذة مثل هذه المواضع، والقولُ بكون لامِ "لتصغى" لام كي سُكِّنت لتوالي الحركات واللامين بعدها لامَيْ أمرٍ بعيدٌ وتَشَهٍّ. وقال النحاس: "ويُقْرأ ولْيقترفوا" يعني بالسكون قال: "وفيه معنى التهدد". قلت يريد أنه أَمْرُ تهديد كقوله: { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40] ولم يَحْكِ التسكينَ في "لتصْغَى" ولا في "ليرضوه".
و "ما" في ماهم مُقْتَرِفون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على كلا القولين الأولين محذوفٌ أي: ما هم مقترفوه. وقال أبو البقاء: "وأثبت النونَ لَمَّا حُذِفَتْ الهاء" يريد أن الضميرَ المتصل باسم الفاعل المثنى والمجموع على حَدِّه تُحْذَفُ له نون التثنية والجمع نحو: هذان ضارباه وهؤلاء ضاربوه، فإذا حذف الضمير زال الموجب فتعود النون، وهذا هو الأكثر أعني حذف النون مع اتصال الضمير وقد ثبتت قال:

2040ـ ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه جميعاً وأيدي المعتفين رواهقهْ

وقال:

2041- هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونهُ ............

والاقتراف: الاكتساب، واقترف فلان لأهله أي: اكتسب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب، ويطلق في الخير قال تعالى: { { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [الشورى: 23] وقال ابن الأنباري: "قَرَف واقْتَرَف اكتسب. وأنشد:

2042ـ وإني لآتٍ ما أَتَيْتُ وإنني لِمَا اقترفَتْ نفسي عَليَّ لَراهِبُ

وأصلُ القِرْف والاقتراف قِشْرُ لِحاء الشجر، والجِلْدَةُ من أعلى الحَرَج وما يُؤْخذ منه قِرْف، ثم استعير الاقترافُ للاكتساب حسناً كان أو سيئاً وفي السَّيِّء أكثر استعمالاً، وقارف فلان أمراً: تعاطَى ما يُعاب به. وقيل: الاعتراف يزيل الاقتراف، ورجل مُقْرِف أي هجين قال:

2043ـ كم بجودٍ مُقْرِفٍ نال العُلى وشريفٍ بُخْلُه قد وضَعَهْ

وقَرَفْتُه بكذا اتهمته أو عبته به.