خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { حَيْثُ يَجْعَلُ }: في "حيث" هذه وجهان أحدهما: أنها خرجت عن الظرفية، وصارت مفعولاً بها على السعة، وليس العاملُ "أعلم" هذه لما تقدم من أنَّ أفعل لا ينصب المفعول به. قال أبو علي: "لا يجوز أن يكون العامل في "حيث": "أعلم" هذه الظاهرة، ولا يجوز أن تكون "حيث" ظرفاً لأنه يصير التقدير: الله أعلمُ في هذا الموضع، ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع وأوقات، لأنَّ عِلْمَه لا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإذا كان كذلك كان العامل في "حيث" فعلاً يدلُّ عليه "أعلم"، و "حيث" لا يكون ظرفاً بل يكون اسماً، وانتصابه على المفعول به على الاتساع، ومثل ذلك في انتصاب "حيث" على المفعول به اتساعاً قول الشماخ:

2049ـ وحَلأَّها عن ذي الأراكةِ عامرٌ أخو الخُضْرِ يَرْمي حيث تُكْوى النواحِزُ

فـ "حيث" مفعولة لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكون النواحز إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع". وتبع الناس الفارسيَّ على هذا القول فقال الحوفي: "ليست ظرفاً لأنه تعالى لا يكون في مكانٍ أعلم منه في مكان آخر، وإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً بها على السعة، وإذا كانت مفعولاً لم يعمل فيها "أعلم" لأنَّ "أعلم" لا يعمل في المفعول به فيقدَّر لها فعل"، وعبارة ابن عطية وأبي البقاء نحوٌ من هذا. وأخذ التبريزيُّ كلامَ الفارسي فنقله وأنشد البيت المتقدم.
والثاني: أنها باقية على ظرفيتها بطريق المجاز، وهذا القول ليس بشيء، ولكنْ أجازه الشيخ مختاراً له على ما تَقَدَّم فقال: "وما أجازوه من أنه مفعول به على السَّعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأنَّ النحويين نصُّوا على أن "حيث" من الظروف التي لا تتصرَّف، وشذَّ إضافةُ "لدى" إليها وجرُّها بالباء و بـ "في"، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّع فيه لا يكون إلا متصرِّفاً، وإذا كان كذلك امتنع نصب "حيث" على المفعول به لا على السَّعة ولا على غيرها.
والذي يظهر لي إقرارُ "حيث" على الظرفية المجازية على أن يُضَمَّن "أعلم" معنى ما يتعدَّى إلى الظرف فيكون التقدير: الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته أي: هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يَجْعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجاز كما قلنا". قلت: قد ترك ما قاله الجمهور وتتابعوا عليه وتأوَّل شيئاً هو أعظمُ مما فرَّ منه الجمهورُ، وذلك أنه يلزمه على ما قَدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نفسه يتفاوت بالنسبة إلى الأمكنة فيكون في مكانٍ أبعدَ منه في مكان، ودعواه مجازَ الظرفية لا ينفعه فيما ذكرته من الإِشكال، وكيف يُقال مثلُ هذا؟ وقوله "نَصَّ النحاة على عدمِ تصرُّفها" هذا معارض أيضاً بأنهم نصُّوا على أنها قد تتصرف بغير ما ذَكَرَ هو مِنْ كونها مجرورةً بـ "لدى" أو إلى أو في، فمنه: أنها جاءت اسماً لإِنَّ في قول الشاعر:

2050ـ إنَّ حيث استقرَّ مَنْ أنت راجيــ ــهِ حِمَىً فيه عزةٌ وأمانُ

فحيث اسم "إنّ" و "حمى" خبرها أي: إن مكاناً استقرَّ مَنْ أنت راعيه مكانٌ يُحمى فيه العزُّ والأمان. ومِنْ مجيئها مجرورةً بإلى قوله:

2051ـ فشدَّ ولم يَنْظر بيوتاً كثيرة إلى حيث أَلْقَتْ رَحْلَها أَمُّ قَشْعَمِ

وقد يُجاب عن الإِشكال الذي أَوْرَدْتُه عليه بأنه لم يُرِدْ بقوله "أنفذ علماً" التفضيل وإن كان هو الظاهر، بل يريد مجردَ الوصف، ويدل على ذلك قوله: أي هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته، ولكن كان ينبغي أن يصرِّح بذلك فيقول: وليس المرادُ التفضيلَ. ورُوِي "حيثَ يجعل" بفتح الثاء، وفيها احتمالان أحدهما: أنها فتحةُ بناءٍ طَرْداً للباب. والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ لأنها معربة في لغة بني فَقْعس حكاها الكسائي.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم "رسالته" بالإِفراد، والباقون: رسالاته بالجمع، وقد تقدَّم توجيه ذلك في المائدة، إلا أنَّ بعض مَنْ قرأ هناك بالجمع ـ وهو حفصٌ ـ قرأ هنا بالإِفراد، وبعض مَنْ قرأ هناك بالإِفراد - وهو أبو عمروَ والأخوان وأبو بكر عن عاصم ـ قرأ هنا بالجمع.
قوله: { عِندَ ٱللَّهِ } يجوز أن ينتصبَ بـ "يصيب"، ويجوز أن ينتصب بصَغار لأنه مصدر، وأجازوا أن يكون صفة لصَغار فيتعلَّق بمحذوف، وقَدَّره الزجاج فقال: "ثابت عند الله". والصَّغار: الذلُّ والهوان يقال منه: صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً فهو صاغر، وأمَّا ضدُّ الكِبَر فيقال منه: صَغَر يَصْغَر صِغْراً فهو صغير، هذا قول الليث، فوقع الفرق بين المعنيين بالمصدر والفعل. وقال غيره: إنه يقال صَغُر وصغَر مِنَ الذل.
والعنديَّة هنا مجازٌ عن حَشْرهم يوم القيامة أو عن حكمه وقضائه بذلك كقولك: ثبت عند فلان القاضي أي: في حكمه، ولذلك قَدَّم الصَّغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا. و "بما كانوا" الباء للسببية و "ما" مصدرية. ويجوز أن تكون بمعنى الذي.