خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١٣٧
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ }: هذا في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف كنظائره، فقدّره الزمخشري تقديرين فقال: "ومثل ذلك التزيين وهو تزيينُ الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو: ومثل ذلك التزيينِ البليغ الذي عُلِم من الشياطين". قال الشيخ: "قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون "كذلك" مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زَيَّن" قلت: والمنقول عن ابن الأنباري أنه مشار به إلى ما قبله، نقل الواحدي عنه أنه قال: "ذلك إشارة إلى ما نعاه الله عليهم مِنْ قَسْمهم ما قسموا بالجهل فكأنه قيل: ومثل ذلك الذي أَتوه في القَسْم جهلاً وخطأً زَيَّن لكثير من المشركين فشبَّه تزيين الشركاء بخطابهم في القسم، وهذا معنى قول الزجاج.
وفي هذه الآية قراءات كثيرة، والمتواتر منها ثنتان، الأولى: قرأ العامة "زَيَّنَ" مبنياً للفاعل و "قَتْلَ" نصب على المفعولية و "أولادهم" خفض بالإِضافة، و "شركاؤهم" رفع على الفاعلية وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب. وقرأ ابن عامر: "زُيِّن" مبنياً للمفعول، "قَتْلُ" رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعله، "أولادَهم" نصباً على المفعول بالمصدر، "شركائهم" خفضاً على إضافة المصدر إليه فاعلاً. وهذه القراءة متواترة صحيحة، وقد تجرَّأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي، وهو أعلى القراء السبعة سنداً وأقدمهم هجرة: أمَّا علوُّ سندِه فإنه قرأ على أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة المخزومي، ونقل يحيى الذماري أنه قرأ على عثمان نفسه، وأمَّا قِدَمُ هجرته فإنه وُلِد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك به أن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري أخذ عن أصحاب أصحابه، وترجمته متسعة ذكرتها في "شرح القصيد"، وإنما ذكرت هنا هذه العُجالة تنبيهاً على خطأ مَنْ ردَّ قراءته ونسبه إلى لَحْنٍ أو اتباع مجرد المرسوم فقط.
قال أبو جعفر النحاس: "وهذا يعني الفصلَ بين المضاف والمضاف إليه بالظرف أو غيره، ولا يجوز في شعرٍ ولا غيره". وهذا خطأ من أبي جعفر لِمَا سنذكره من لسان العرب، وقال أبو علي الفارسي: "هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها ـ يعني ابن عامر ـ كان أَوْلى لأنهم لم يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف، وإنما أجازوه في الشعر" قال: "وقد فصلوا به ـ أي بالظرف ـ في كثير من المواضع نحو قوله تعالى:
{ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [المائدة: 22] وقولِ الشاعر:

2061ـ على أنني بعدما قد مَضَى ثلاثون للهَجر حَوْلاً كميلا

وقول الآخر:

2062ـ فلا تَلْحَنِي فيها فإنَّ بحبِّها أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه

ففصل بين إنَّ واسمها بما يتعلَّق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يَجُزْ، ألا ترى أنك لو قلت: "إن زيداً عمراً ضارب" على أن يكون "زيداً" منصوباً بضارب لم يَجُز، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام بالظرف مع اتساعهم فيه في الكلام، وإنما يجوز في الشعر كقوله:

2063ـ كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً يهوديٍ يقارِبُ أو يُزيلُ

فأن لا يجوز بالمفعول به الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك على ضَعْفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر على حَدِّ ما قرأه. قال الطرماح:

2064ـ يَطُفْنَ بحوزيِّ المراتعِ لم تَرُعْ بواديه مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكنائِنِ

وأنشد أبو الحسن:

2065ـ ............... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ

وقال أبو عبيد: "وكان عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرؤونها "زُيِّن" بضم الزاي، "قتلُ" بالرفع، "أولادَهم" بالنصب، "شركائهم" بالخفض، ويتأوّلون "قتل شركائهم أولادَهم" فيفرقون بين الفعل وفاعله". قال أبو عبيد: "ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه، والقراءة عندنا هي الأَوْلَى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والمِصْرَين بالعراق عليها" وقال سيبويه في قولهم"يا سارق الليلةِ أهلَ الدار" بخفض "الليلة" على التجوز وبنصب الأهل على المفعولية، ولا يجوز "يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار" إلا في شعر كراهةَ أن يفصلوا بين الجار والمجرور. ثم قال: "وممَّا جاء في الشعر قد فُصل بينه وبين المجرور قولُ عمرو بن قميئة:

2066ـ لمَّا رأت ساتيدَ ما استعبرتْ لله درُّ اليومَ مَنْ لامها

وذكر أبياتاً أخر ستأتي. ثم قال: "وهذا قبيح، ويجوز في الشعر على هذا: "مررت بخيرِ وأفضلِ مَنْ ثَمَّ". وقال أبو الفتح ابن جني: "الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور كثير لكنه من ضرورة الشاعر". وقال مكي بن أبي طالب: "ومن قرأ هذه القراءة ونصب "الأولاد" وخفض "الشركاء" فهي قراءة بعيدة، وقد رُوِيَتْ عن ابن عامر، ومجازها على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وذلك إنما يجوز عند النحويين في الشعر، وأكثر ما يكون بالظرف". وقال ابن عطيةرحمه الله : "وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يُجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في شعر كما قال:

2067ـ كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً يهوديٍ .............

/ البيت فكيف بالمفعول في أفصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضعفها أنها وردت في بيت شاذ أنشده أبو الحسن الأخفش:

2068ـ فَزَجَجْتها بمَزَجَّةٍ زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ

وفي بيت الطرماح وهو قوله:

2069ـ يَطُفْنَ بحُوزِيِّ المراتع لم تَرُعْ بواديه من قَرْع القِسيَّ الكنائِنِ

وقال الزمخشري ـ فأغلظ وأساء في عبارته ـ "وأمَّا قراءة ابن عامر ـ فذكرها ـ فشيءٌ لو كان في مكان الضرورة وهو الشعر لكان سَمِيحاً مردوداً كما سَمُج ورُدَّ:

........................ زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ

فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المُعْجِز بحسن نظمه وجزالته"؟ الذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف "شركائهم" مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر "الأولاد" و "الشركاء" ـ لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم ـ لوَجَدَ في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب" قلت: سيأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسم أن يقرأه ابن عامر، وأنه قد قرأ به، فكأن الزمخشري لم يَطَّلِعْ على ذلك فلهذا تمنَّاه.
وهذه الأقوال التي ذكرتُها جميعاً لا ينبغي أن يُلْتفت إليها لأنها طَعْنٌ في المتواتر، وإن كانت صادرةً على أئمةٍ أكابرَ، وأيضاً فقد انتصر لها مَنْ يقابلهم، وأورد من لسانِ العرب نظمِه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغةً: قال أبو بكر ابن الأنباري: "هذه قراءة صحيحة، وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بين المتضايفين بالجملة في قولهم: "هو غلامُ إن شاء الله أخيك" يريدون: هو غلام أخيك فأنْ يُفْصَل بالمفرد أسهل" انتهى. وسمع الكسائي قول بعضهم: "إن الشاةَ لتجترُّ فتسمع صوتَ واللهِ ربِّها" أي: صوت ربها والله، ففصل بالقسم وهو في قوة الجملة، وقرأ بعض السلف: { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِهُ } [إبراهيم: 47] بنصب "وعدَه" وخفض "رسله"، وفي الحديث عنه عليه السلام:
"هل أنتم تاركو لي صاحبي، تاركو لي امرأتي" أي: تاركو صاحبي لي، تاركو امرأتي لي.
وقال ابن جني في الخصائص: "باب ما يَرِد عن العربي مخالفاً للجمهور، إذا اتفق شيء من ذلك: نُظِر في ذلك العربي وفيما جاء به: فإن كان فصيحاً وكان ما جاء به يقبله القياس فَيَحْسُن الظنُّ به؛ لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك مِنْ لغةٍ قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عوف عن ابن سيرين: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان الشعر عِلْمَ قوم لم يكن لهم عِلْمٌ أصحُّ منه، فجاء الإِسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغَزْوِ فارس والروم ولَهَت عن الشعر وروايتِه، فلمَّا كثُر الإِسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوانٍ مُدَوَّنٍ ولا إلى كتاب مكتوب، وأَلِفُوا ذلك وقد هلك مَنْ هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عنهم كثيره. قال: وحدثنا أبو بكر عن أبي خليفة عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: قال: "ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلا أقلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير". قال أبو الفتح: "فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح [إذا] سُمِع منه ما يخالف الجمهورَ بالخطأ ما وُجِد طريق إلى تقبُّل ما يورده إلا إذا كان القياس يعاضده". قلت: وقراءة هذا الإِمام بهذه الحيثيَّة بل بطريق الأولى والأحرى لو لم تكن متواترةً فكيف وهي متواترة؟ وقال ابن ذكوان: "سألني الكسائي عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه أعجبه وترنَّم بهذا البيت:

2070ـ تَنْفي يداها الحصَى في كل هاجرة نَفْيَ الدَّراهيمَ تَنْقادِ الصيارِيف

بنصب "الدراهيم" وجرّ "تنقاد"، وقد روي بخفض "الدراهيم" ورفع "تنقاد" وهو الأصل وهو المشهور في الرواية. وقال/ الكرماني: "قراءة ابن عامر وإن ضَعُفَتْ في العربية للإِحالة بين المضاف والمضاف إليه فقويَّةٌ في الرواية عالية" انتهى. وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثق بعربيته: "تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها سَعْيٌ في رَداها" أي: تَرْكُ نفسِك يوماً مع هواها سَعْيٌ في هَلاكها، وأمَّا ما ورد في النظم من الفصل بين المتضايفين بالظرف وحرف الجر وبالمفعول فكثير وبغير ذلك قليلٌ، فمِن الفصلِ بالظرف قولُ الشاعر:

2071ـ فَرِشْني بخيرٍ لا أكونَنْ ومِدْحتي كناحتِ يوماً صخرةٍ بعسيل

تقديره: كناحت صخرةٍ يوماً، ومثله قول الآخر:

2072ـ كما خُطَّ الكتابُ بكف يوماً يهوديٍّ ................

وقول الآخر:

2073ـ قد سَأَلَتْني أمُّ عمروٍ عن الــ أرضِ التي تجهل أَعْلامَها

لَمَّا رَأَتْ ساتِيْدَ ما اسْتَعْبَرَتْ للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامها

تَذَكَّرَتْ أرضاً بها أهلَها أخوالَها فيها وأعمامَها

يريد: لله دَرُّ مَنْ لامَها اليوم. و "ساتيد ما" قيل: هو مركب والأصل: ساتي دما، ثم سُمِّي به هذا الجبلُ لأنه قُتِل عنده. قيل: ولا تبرح القتلى عنده. وقيل: "ساتيد" كلُّه اسمٌ و "ما" مزيدةٌ. ومثالُ الفصل بالجارِّ قولُه:

2074ـ هما أخوا في الحرب مَنْ لا أخاله إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فدعاهما

وقوله:

2075ـ لأنتَ مُعْتادُ في الهيجا مصابَرَةٍ يَصْلى بها كلُّ مَنْ عاداك نيرانا

وقوله:

2076ـ كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالِهِنَّ بنا أواخِرِ المَيْسِ أصواتُ الفراريج

وقوله:

2077ـ تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وقد شَفَتْ غلائلَ عبدُ القيسِ منها صدورِها

يريد: هما أخوا مَنْ لا أخاله في الحرب، ولأنت معتاد مصابرة في الهجاء، وكأن أصواتَ أواخر الميس، وغلائل صدورِها. ومن الفصل بالمفعول قول الشاعر:

2078ـ فَزَجَجْتُها بمَزَجَّةٍ زجَّ القَلوصَ أبي مزادَه

ويروى: فَزَجَجْتها فتدافعَتْ، ويُروى: فزجَجْتها متمكناً، وهذا البيت كما تقدَّم أنشده الأخفش بنصب "القلوص" فاصلاً بين المصدر وفاعله المعنوي، إلا أن الفراء قال بعد إنشاده لهذا البيت: "ونحويُّو أهل المدينة ينشدون هذا البيت يعني بنصب القلوص" قال: "والصواب: زَجَّ القلوصِ بالخفض" قلت: قوله "والصوابُ يحتمل أن يكون من حيث الرواية، أي: إن الصوابَ خَفْضُه على الرواية الصحيحة، وأن يكون من حيث القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنصب. وقال في موضع آخر من كتابه "معاني القرآن": "وهذا مما كان يقوله نحويُّو أهلِ الحجاز ولم نجد مثله في العربية" وقال أبو الفتح: "فُصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول: زج القلوصِ أبو مزادة كقولك: "سَرَّني أكلُ الخبزِ زيدٌ" بمعنى أنه كان ينبغي أن يضيف المصدر إلى مفعوله فيبقى الفاعل مرفوعاً على أصله، وهذا معنى قول الفراء الأول "والصواب جر القلوص" يعني ورفع الفاعل. ثم قال ابن جني: "وفي هذا البيت عندي دليلٌ على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب هذه الضرورةَ مع تمكُّنِه مِنْ تَرْكِها لا لشيء غيرَ الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول، ومن الفصل بالمفعول به أيضاً قولُ الآخر:

2079ـ وحِلَقِ الماذيِّ والقوانِسِ فداسَهم دونسَ الحصادَ الدائِسِ

أي: دوس الدائس الحصادَ. ومثله أيضاً:

2080ـ يَفْرُك حَبَّ السنبلِ الكُنَافِجِ بالقاع فَرْكَ القطنَ المحالجِ

يريد: فَرْك المحالجِ القطنَ، وقول الطرماح:

2081ـ ................. بواديه من قَرْع القِسِيَّ الكنائنِ

يريد: قرع الكنائنِ القسيَّ، قال ابن جني في هذا البيت: "لم نجد فيه بُدَّاً من الفصل لأن القوافي مجرورة" وقال في "زجَّ القلوصَ": فصل بينهما بالمفعول به/ هذا مع قدرته إلى آخر كلامه المتقدم. يعني أنه لو أنشد بيت الطرماح بخفض "القسيّ" ورفع الكنائن لم يَجُز لأن القوافي مجرورة بخلاف بيت الأخفش، فإنه لو خفض "القلوص" ورفع "أبو مزادة" لم تختلف فيه قافيته ولم ينكسر وزنُه. قلت: ولو رفع "الكنائن" في البيت لكان جائزاً وإن كانت القوافي مجرورةً ويكون ذلك إقواء، وهو أن تكونَ بعضُ القوافي مجرورة وبعضها مرفوعة كقول امرئ القيس:

2082ـ تَخْدي على العِلاَّتِ سامٍ رأسُها رَوْعاءُ مَنْسِمُها رثيمٌ دامِ

ثم قال:

جالَتْ لتصرَعني فقلت لها اقصِري إني امرؤٌ صَرْعي عليك حرامُ

فالميمُ مخفوضةٌ في الأول مرفوعة في الثاني، فإن قيل: هذا عيبٌ في الشعر. قيل: لا يتقاعد ذلك عن أن يكونَ مثلُ هذه للضرورة، والحق إن الإِقواء أفحشُ وأكثر عيباً من الفصل المذكور، ومن ذلك أيضاً:

2083ـ فإن يكنِ النِّكاحُ أَحَلَّ شيءٍ فإنَّ نكاحها مطرٍ حرامُ

أي: فإن نكاحِ مطرٍ إيَّاها، فلمَّا قُدِّم المفعول فاصلاً بين المصدر وفاعله اتصل بعامله لأنه قَدِر عليه متصلاً فلا يَعْدِلُ إليه منفصلاً. وقد وقع في شعر أبي الطيب الفصلُ بين المصدر المضاف إلى فاعله بالمفعول كقوله:

2084ـ بعثتُ إليه من لساني حديقة سقاها الحيا سَقْيَ الرياضَ السحائبِ

أي: سقي السحائبِ الرياضَ. وأمَّا الفصلُ بغير ما تقدَّم فهو قليل، فمنه الفصلُ بالفاعل كقوله:

2085ـ ................ غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها

ففُصِل بين "غلائل" وبين "صدورها" بالفاعل وهو "عبد القيس" وبالجار وهو "منها" كما تقدم بيانه، ومثلُه قول الآخر:

2086ـ نرى أسهماً للموت تُصْمي ولا تُنْمي ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ

فأهواؤنا فاعلٌ بالمصدر وهو "نَقْض" وقد فُصِل به بين المصدر وبين المضاف إليه وهو العزم، ومثله قول الآخر:

2087ـ أَنْجَبَ أيام والداهُ به إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا

يريد: أيام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو "والداه" المرفوع بـ "أنجب" بين المتضايفين وهما "أيام ـ إذ ولداه". قال ابن خروف: "يجوز الفصلُ بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله، ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله، وعليه قراءة ابن عامر". قلت: هذا فرق بين الفاعل والمفعول حيث استُحْسِن الفصل بالمفعول دون الفاعل. ومن الفصل بغير ما تقدَّم أيضاً الفصلُ بالنداء كقوله:

2088ـ وفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ منقِذٌ لك من تعجيل مُهْلِكَةٍ والخلدِ في سَقَرَ

وقول الآخر:

2089ـ إذا ما أبا حفصٍ أَتَتْكَ رَأَيْتَها على شعراء الناس يعلو قصيدها

وقول الآخر:

2090ـ كأنَّ بِرْذَوْنَ أبا عصامِ زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجامِ

يريد: وفاق بجيرٍ يا كعب، وإذا ما أتتك يا أبا حفص، وكأن بِرْذون زيدٍ يا أبا عصام. ومن الفصل أيضاً الفصلُ بالنعت كقول معاوية يخاطب به عمرو بن العاص:

2091ـ نَجَوْتَ وقد بَلَّ المُراديُّ سيفَه من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ

وقول الآخر:

2092ـ ولئن حَلَفْتُ على يديكَ لأحْلِفَنْ بيمينِ أصدقَ مِنْ يمينك مُقْسِمِ

يريد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، فشيخ الأباطح نعت لأبي طالب، فَصَلَ به بين أبي وبين طالب، ويريد: لأحلفن بيمينٍ مقسم أصدقَ مِنْ يمينك، فأصدق نعت لقوله بيمين، فصل به بين "يمين" وبين "مقسم". ومن الفصل أيضاً الفصل بالفعل الملغى:

2093ـ ألا يا صاحِبَيَّ قِفا المَهارى نسائلْ حيَّ بثنةَ أين سارا

بأيِّ تَرَاهُمُ الأرَضينَ حَلُّوا أالدبران أم عَسَفُوا الكِفارا

يريد: بأي الأرضين تراهم حلُّوا، فَفَصَلَ بقوله "تراهم" بين "أيّ" وبين "الأرضين". ومن الفصلِ أيضاً الفصلُ بمفعولٍ ليس معمولاً للمصدر المضاف إلى فاعل كقول الشاعر:

2094ـ تَسْقي امتياحاً ندى المسواكَ ريقتِها كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنَةِ الرَصفُ

أي: تسقي ندى ريقتها المسواكَ فالمسواك مفعول به ناصبه "تسقي" فَصَل به بين/ "ندى" وبين "ريقتها"، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن قراءة ابن عامر صحيحة من حيث اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل، ولا التفات إلى قول مَنْ قال: إنه اعتمد في ذلك على رسم مصحف الشام الذي أرسله عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه لم يوجد فيه إلا كتابة "شركائهم" بالياء"، وهذا وإن كان كافياً في الدلالة على جَرِّ "شركائهم" فليس فيه ما يدل على نصب "أولادهم" إذ المصحفُ مهملٌ من شكل ونقط فلم يبقَ له حجةٌ في نصب الأولاد إلا النَّقْلُ المحض.
وقد نُقِل عن ابن عامر أنه قرأ بجرَِّ "الأولاد" كما سيأتي بيانُه وتخريجهُ، وأيضاً فليس رسمها "شركائهم" بالياء مختصَّاً بمصحف الشام بل هي كذلك أيضاً في مصحف أهل الحجاز. قال أبو البرهسم: "في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز "أولادهم شركائهم" بالياء، وفي إمام أهل العراق "شركاؤهم" ولم يَقْرأ أهل الحجاز بالخفض في "شركائهم" لأنَّ الرسمَ سُنَّةٌ مُتَّبعة قد توافقها التلاوة وقد لا توافق". إلا أن الشيخ أبا شامة قال: "قلت ولم تُرْسَمُ كذلك إلا باعتبار قراءتين: فالمضموم عليه قراءة معظم القراء" ثم قال: "وأما شركائهم بالخفض فيحتمل قراءة ابن عامر" وسيأتي كلام أبي شامة هذا بتمامه في موضعه، وإنما أَخَذْتُ منه [بقدر] الحاجة هنا. فقوله "إن كل قراءة تابعةٌ لرسم مصحفها" تُشْكِلُ بما ذكرت لك من أن مصحف الحجازيين بالياء مع أنهم لم يقرؤوا بذلك. وقد نقل أبو عمرو الداني أن "شركائهم" بالياء إنما هو في مصحف الشام دون مصاحف الأمصار فقال: "في مصاحف أهل الشام "أولادهم شركائهم" بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو". قلت: هذا هو المشهور عند الناس أعني اختصاص الياء بمصاحف الضام، ولكنْ أبو البرهسم ثقة أيضاً فنقبل ما ينقله. وقد تقدَّم قولُ الزمخشري: "والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء".
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: "ولا بُعْدَ فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عُهد تقدُّمُ المفعول على الفاعل المرفوع لفظاً فاستمرت له هذه المرتبةُ مع الفاعل المرفوع تقديراً فإن المصدر لو كان منوناً لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو: "أعجبني ضربٌ عمراً زيدٌ" فكذا في الإِضافة وقد ثَبَتَ جوازُ الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثرَ من شدته بين المضاف والمضاف إليه كقوله تعالى:
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } } [النساء: 155] { فَبِمَا رَحْمَةٍ } [آل عمران: 159] فـ "ما" زائدة في اللفظ فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى، والمفعول المقدم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظاً، ولا التفات إلى قول مَنْ زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مِثْلُه لأنه نافٍ، ومَنْ أسند هذه القراءة مُثْبِت، والإِثبات مُرَجَّح على النفي بإجماع، ولو نُقِل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع إليه فما باله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة؟ ثم الذي حكاه ابن الأنباري يعني مما تقدَّم حكايته من قولهم "هو غلامُ إن شاء الله أخيك" فيه الفصلُ في غير الشعر بجملة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر: "زُيِّن" مبنياً للمفعول، "قَتْلُ" رفعاً على ما تقدم، "أولادِهم" خفضاً بالإِضافة، "شركاؤهم" رفعاً، وفي رفعه تخريجان أحدهما: ـ وهو تخريج سيبويه ـ أنه مرفوع بفعل مقدر تقديره: زَيَّنه شركاؤهم، فهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: مَنْ زَيَّنه لهم؟ فقيل: شركاؤهم، وهذا كقوله تعالى: "يُسَبَّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال" أي: يُسَبِّحه رجال، وقول الآخر:

2095ـ ليُبْكَ يزيدٌ ضارعٌ لخصومةٍ ................

والثاني: ـ وهو تخريج قطرب ـ أن يكون "شركاؤهم" رفعاً على الفاعلية بالمصدر، والتقدير: زُيّن للمشركين أنْ قَتَلَ أولادَهم شركاؤهم كما تقول:/ "حُبِّب لي ركوبُ الفرسِ زيدٌ" تقديره: حبب لي أَنْ ركب الفرس زيد. والفرق بين التخريجين أن التخريج الأول يؤدي إلى أن تكون هذه القراءة في المعنى كالقراءة المنسوبة للعامَّة في كون الشركاء مُزَيِّنين للقتل وليسوا قاتلين، والثاني: [أن] يكون الشركاء قاتلين، ولكن ذلك على سبيل المجاز؛ لأنهم لَمَّا زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائهم وكانوا سبباً فيه نُسِبَ إليهم القتل مجازاً. وقال أبو البقاء: "ويمكن أن يقعَ القَتْلُ منهم حقيقةً"، وفيه نظرٌ لقوله "زُيّن" والإِنسان إنما يُزَيَّن له فِعْلُ نفسه كقوله تعالى: { { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [فاطر: 8].
وقال غير أبي عبيد: "وقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر إلا أنهم خَفَضُوا "الأولاد" أيضاً، وتخريجُها سَهْلٌ: وهو أن تجعلَ "شركائهم" بدلاً من "أولادهم" بمعنى أنهم يُشْركونهم في النسب والمالِ وغير ذلك. قال الزجاج: "وقد رُوِيت "شركايهم" بالياء في بعض المصاحف، ولكن لا يجوزُ إلا على أن يكونَ "شركاؤهم" من نعتِ الأولاد لأنَّ أولادَهم شركاؤهم في أموالهم. وقال الفراء: بعد أن ذكر قراءة العامة وهي "زَيَّن" مبنياً للفاعل، "شركاؤهم" مرفوعاً على أنه فاعل ـ "وقراءة "زُيِّن" مبنياً للمفعول "شركاؤهم" رفعاً على ما تقدم من أنه بإضمار فعل، وفي مصحف أهل الشام شركايهم بالياء، فإن تكنْ مثبتةً عن الأولين فينبغي أن تقرأ "زُين" ويكون الشركاء هم الأولاد، لأنهم منهم في النسب والميراث، وإن كانوا يقرؤون "زَيَّن" ـ يعني بفتح الزاي ـ فلست أعرفُ جهتَها، إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عشايا، ويقولون في تثنية حمراء: حمرايان، فهذا وجه أن يكونوا أرادوا: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايُهم، يعني بياء مضمومة لأن "شركاؤهم" فاعل كما مر في القراءة العامة" قال: "وإن شئت جعلت زين فعلاً إذا فتحته لا يُلبس، ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد". قال أبو شامة: "قلت: يعني تقدير الكلامِ زَيَّن بزُين، فقد اتجه "شركائهم" بالجر أن يكون نعتاً للأولاد سواءٌ قُرئ زين بالفتح أو الضم".
وقرأت فرقة من أهل الشام ـ ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - "زِيْنَ" بكسر الزاي بعدها ياء ساكنة على أنه فعل ماض مبني للمفعول على حَدّ قيل وبيع. وقيل: مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله، وأولادَهم بالنصب، وشركائِهم بالخفض، والتوجيه واضح مما تقدم فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في الباب أنه أُخذ مِنْ زان الثلاثي وبُني للمفعول فأُعِلَّ بما قد عرفته في أول البقرة.
واللام من قوله "لكثير من المشركين" متعلقة بزين، وكذلك اللام في قوله "ليُرْدُوهم". فإن قيل: كيف تُعَلِّق حرفَيْ جر بلفظ واحد وبمعنى واحد بعامل واحد من غير بدلية ولا عطف؟ فالجواب: أن معناهما مختلف فإنَّ الأولى للتعدية والثانية للعِلِّيَّة. وقال الزمخشري "إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السَّدَنة فهي للصيرورة" يعني أن الشيطانَ يفعل التزيين، وغرضه بذلك الإِرداء، فالتعليل فيه واضح، وأمَّا السَّدَنةُ فإنهم لم يزيِّنوا لهم ذلك وغرضُهم إهلاكهم، ولكن لمَّا كان مآل حالهم إلى الإِرداء أتى باللام الدالَّة على العاقبة والمآل.
قوله "وليَلْبِسوا" عطف على "ليُرْدوا"، عَلَّلَ التزيين بشيئين: بالإِرداء وبالتخليط وإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجمهورُ على "وليَلْبِسوا" بكسر الباء مِنْ لبَسْت عليه الأمر ألبِسُه بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقد تقدم بيانه في قوله
{ { ولَلَبَسْنا عليهم ما يَلْبِسون } [الأنعام: 9]. وقرأ النخعي: "وليلبَسوا" بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: "لَبَِسْتُ عليه الأمر بفتح الباء وكسرها ألبِسه وألبَسه، والصحيح أن لَبِس بالكسر بمعنى/ لبس الثياب، وبالفتح بمعنى الخلط، فالصحيح أنه استعار اللباس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب وصارت محيطةً بهم.
وقوله: "ما فعلوه" الضمير المرفوع للكثير والمنصوب للقتل للتصريح به ولأنه المسوقُ للحديث عنه. وقيل: المرفوع للشركاء والمنصوب للتزيين، وقيل: المنصوب لِلَّبْسِ المفهوم من الفعل قبله وهو بعيد. وقال الزمخشري: "لما فعل المشركون ما زُيِّن لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السَّدَنَة التزيين أو الإِرداء أو اللبس، أو جميع ذلك إن جَعَلْتَ الضمير جارياً مَجْرى اسم الإِشارة".
وقوله
{ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 112] تقدَّم نظيره.