خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١٥٢
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٥٣
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }: استثناء مفرغ أي: لا تَقْرَبُوه إلا بالخَصْلة الحسنى، فيجوز أن يكون حالاً، وأن يكون نعت مصدر، وأتى بصيغة التفضيل تنبيهاً على أنه يَتَحَرَّى في ذلك، ويَفْعل الأحسنَ ولا يَكْتفي بالحسن.
قوله: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ } هذه غايةٌ من حيث المعنى فإن المعنى: احفظوا ما لَه حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ولو/ جعلناه غاية للفظ كان التقدير: لا تقربوه حتى يبلغَ فاقربوه، وليس ذلك مراداً.
والأَشَدُّ: اختلف النحويون فيه على خمسة أقوال فقيل: هو جمع لا واحد له، وهو قول الفراء فإنه قال: "الأشدُّ واحدها "شَدّ" في القياس ولم أسمع لها بواحد"، وقيل: هو مفردٌ لا جمعٌ، نقل ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة ذلك، وأنه بمنزلة الآنُك، ونَقَلَ الشيخ عنه أن هذا الوجه مختاره في آخرين، ثم قال: "وليس بمختار لفقدان أَفْعُل في المفردات وضَْعاً" وقيل: هو جمع "شِدَّة"، وفِعْلة يجمع على أَفْعُل كنِعْمَة وأنعُم، قاله أبو الهيثم وقال: "وكأن الهاء في الشدة والنعمة لم تكن في الحرف إذ كانت زائدة، وكان الأصل نِعم وشِدّ فجمعا على أَفْعُل كما قالوا: رجل وأرجُل وقدح وأقْدُح وضِرس وأضرُس. وقيل: هو جمع شُد بضم الشين نقله ابن الأنباري عن بعض البصريين قال: "كقولك: هو وُدٌّ، وهم أَوَدّ. وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها وهو محتمل. والمراد هنا ببلوغ الأشد بلوغ الحُلُمِ في قول الأكثر لأنه مَظِنَّة ذلك. وقيل: هو مبلغ الرجال من الحيلة والمعرفة. وقيل: هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين. وقيل: أن يبلغ ثلاثة وثلاثين. وقيل: أربعين. وقيل: ستين، وهذه لا تليق بهذه الآية، إنما تليق بقوله تعالى
{ { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف: 15]. والأَشَدُّ: مشتق من الشِدَّة وهي القوة والجَلادة، وأنشد الفراء:

2120ـ قد ساد وهو فتىً حتى إذا بلغت أَشُدُّهُ وعلا في الأمر واجتمعا

وقيل: أصله من الارتفاع، مِنْ شَدَّ النهارُ إذا ارتفع وعلا، قال عنترة:

2121ـ عهدي به شَدَّ النهار كأنما خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ

والكَيْل والميزان: هما الآلة التي يُكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر ثم أطلق على الآلة. والميزان: مِفْعال من الوَزْن لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يُستصبح به ويُقاس، وأصل ميزان مِوْزان ففُعِلَ به ما فُعِلَ بميقات وقد تقدم في البقرة.
و "بالقسط" حال من فاعل "أَوْفوا" أي: أوفوهما مُقْسِطين أي: ملتبسين بالقسط، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول أي: أوفوا الكيل والميزان متلبسين بالقسط أي تامَّين. وقال أبو البقاء: "والكَيْلُ هنا مصدر في معنى المكيل، وكذلك الميزان. ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف، تقديره: مكيل الكيل وموزون الميزان"، ولا حاجة إلى ما ادَّعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ولا من تقدير المضاف لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضاً فميزان ليس مصدراً إلا أنه يعضُد قولَه ما قاله الواحدي فإنه قال: "والميزان أي: وزن الميزان لأن المراد إتمام الوزن لا إتمام الميزان، كما أنه قال "وأَوْفوا الكيل" ولم يقل المِكْيال فهو من باب حذف المضاف" انتهى. والظاهرُ عدم الاحتياج إلى ذلك وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطْلق على نفس المكيال حتى يقول "ولم يقل المكيال".
قوله { لاَ نُكَلِّفُ } معترض بين هذه الأوامر، وقوله "ولو كان" أي: ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قرابة. وقد تقدَّم نظير هذا التركيب مراراً. وقوله "وبعهدِ الله" يجوز أن يكونَ من باب إضافة المصدر لفاعله أي: بما عاهدكم الله عليه، وأن يكون مضافاً لمفعوله أي: بما عاهدتم الله عليه كقوله
{ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } } [الأحزاب: 23] { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ } [الفتح: 10] وأن تكون الإِضافة لمجرد البيان أضيف إلى الله من حيث إنه الآمرُ بحفظه، والمراد به العهد الواقع بين الآيتين.
وخُتِمَت هذه بالتذكُّر لأنَّ الأربعة قبلها خفيَّةٌ تحتاج إلى إعمال فكر ونظر حتى يقفَ متعاطيها على العدل فناسبها التذكُّر، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة بحسبِ تعقُّلها وتفهُّمها فلذلك خُتِمَت بالفعل. وتَذَكَّرون حيث وقع يقرؤه الأخوان وعاصم في رواية حفص بالتخفيف، والباقون بالتشديد والأصل: تتذكرون، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إحدى الياءين، وهل هي تاء المضارعة أو تاء التفعُّل؟ خلاف مشهور. ومَنْ ثقَّل أدغم التاء/ في الذال.
قوله { وَأَنَّ هَـٰذَا } قرأ الأخوان بكسر "إن" على الاستئناف و "فاتبعوه" جملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذه الجملة الاتئنافية تفيد التعليل لقوله "فاتبعوه"، ولذلك استشهد بها الزمخشري على ذلك كما تقدَّم، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في "فاتَّبِعوه" كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي.
وقرأ ابن عامر "وأَنْ" بفتح الهمزة وتخفيف النون، والباقون بالفتح أيضاً والتشديد. فأمَّا قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه، أحدها:ـ وهو الظاهر ـ أنها في محل نصب نَسَقاً على ما حرَّم أي: أتل ما حرم وأتل أنْ هذا صراطي، والمراد بالمتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ صراطه صراط لله عز وجل، وهذا قول الفراء قال: "بفتح "أن" مع وقوع "أتلُ" عليها يعني: أتل عليكم أنَّ هذا صراطي مستقيماً. والثاني: أنها منصوبة المحل أيضاً نسقاً على "أن لا تشركوا" إذا قلنا بأنَّ "أَنْ" المصدرية وأنها وما بعدها بدل من "ما حَرَّم" قاله الحوفي. الثالث: أنها على إسقاط لام العلة أي: ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه كقوله تعالى:
{ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ } [الجن: 14] قال أبو علي: "من فتح "أنَّ" فقياس قول سيبويه أنَّه حَمَلها على "فاتَّبعوه" والتقدير: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه كقوله: { وَأنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [المؤمنون: 52]. قال سيبويه: "ولأن هذه أمتكم" وقال في قوله تعالى: "وأن المساجد لله": ولأن المساجد". قال بعضهم: وقد صرَّح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى: { { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ ... فَلْيَعْبُدُواْ } [قريش: 1]، والفاء على هذا كهي في قولك: زيداً فاضرب، وبزيد فامرر. وقد تقدم تقريره في البقرة. قال الفارسي: "قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في "زيد فقائم" قلت: سيبويه لا يجوِّز زيادتها في مثل هذا الخبر، وإنما أراد أبو علي بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يَقُلْ به، بل قال به غيرُه. الرابع: أنها في محل جر نسقاً على الضمير المجرور في "به" أي: ذلكم وصَّاكم به وبأن هذا، وهو قول الفراء أيضاً. وردَّه أبو البقاء بوجهين أحدهما: العطف على الضمير المجرور من غير إعادةِ الجار. والثاني: أنه يصير المعنى: وَصَّاكم باستقامة الصراط وهذا فاسدٌ". قلت: والوجهان مردودان، أمَّا الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجارَّ هنا في قوة المنطوق به، وإنما حُذِفَ لأنه يَطَّرد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطولهما بالصلة، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود، ويدل على ما قلته ما قال الحوفي قال: "حُذِفت الباء لطول الصلة وهي مرادة، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَرٍ على مضمر لإِرادتها". وأمَّا الثاني فالمعنى صحيح غير فاسد؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يُخْرِجنا عن الصراط، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه.
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فقالوا: "أنْ" فيها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن أي: "وأنَّه" كقوله تعالى:
{ { أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [يونس: 10] وقوله:

2122ـ ............... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَْحفَى ويَنْتَعِلُ

وحينئذٍ ففيها أربعةُ الأوجه المذكورة في المشددة. و "مستقيماً" حال، العامل: إمَّا "ها" التنبيه، وإمَّا اسم الإِشارة، وفي مصحف عبد الله "وهذا صراطي" بدون "أنَّ" وهي قراءة الأعمش، وبها تتأيَّد قراءةُ الكسر المؤذنة بالاستئناف.
قوله: { فَتَفَرَّقَ } منصوب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على "فتفرق" بتاء خفيفة، والبزي بتشديدها، فَمَنْ خَفَّف حذف إحدى التاءين، ومَنْ شدَّد أدغم، وتقدم هذا آنفاً في
{ تَتَذَكَّرُونَ } [الأنعام: 80]. و "بكم" يجوز أن تكون مفعولاً به في المعنى أي: فيفرقكم، ويجوز أن تكون حالاً أي: وأنتم معها كقوله:

2123ـ .................. تَدُوس بنا الجماجمَ والتَّرِيبا

وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط، فإنَّ مَنْ اتَّبعه وقى نفسه من النار.