خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣٤
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { مِّن قَبْلِكَ }: متعلَّقٌ بـ "كَذَّبَتْ" ومنع أبو البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ، والزمان لا يُوصف به الجثث، وقد تقدَّم البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله: { { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً } [الأنعام: 6].
قوله: { وَأُوذُواْ } يجوز/ فيه أربعة أوجه أظهرها: أنه عطفٌ على قوله "كُذِّبَتْ" أي: كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على "صَبَروا" أي: فصبروا وأُوْذُوا. والثالث: - وهو بعيدٌ- أن يكونَ معطوفاً على "كُذِّبوا" فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير: فصَبروا على تكذيبهم وإيذائهم. والرابع: أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون القف تَمَّ على قوله "كُذِّبوا" ثم استأنف فقال: "أُوْذوا".
وقرأ الجمهور: { وأُوْذُوا } بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً. وقرأ ابن عامر في روايةٍ شاذةٍ: "وأُذوا" من غير واو بعد الهمزة، وهو من أَذَيْتُ الرجل ثلاثياً لا من "آذيت" رباعياً.
قوله: { حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله: "فصبروا" أي: كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنا "وأوذوا" عطفاً عليه كانت غايةً لهما، وهو واضح جداً. وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط، وإن جَعَلْناه معطوفاً على "كُذِّبَتْ" فتكون الغاية للثلاثة. والنصر مضافٌ لفاعله ومفعوله محذوف، أي: نَصْرُنا إياهم. وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى التكلُّم، إذ قلبه "بآيات الله" فلو جاء على ذلك لقيل: نَصْرُه. وفائدةُ الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة.
قوله: { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ } في فاعل "جاء" وجهان، أحدهما: هو مضمر، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية: "الصواب عندي أن يقدر: "جَلاء، و بيان". وقال الرماني: "تقديره: ولقد جاءك نبأ" وقال الشيخ: "الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن نُصِروا". وعلى هذه الأقوال يكون "من نبأ المرسلين" في محل نصب على الحال من ذلك الضمير، وعاملها هو "جاء" لأنه عاملٌ في صاحبها. والثاني: أنَّ "من نبأ" هو الفاعل، ذكره الفارسي، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه لا يَشْترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ، والمجرور بـ "مِنْ" معرفة. وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله:
{ { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [غافر: 78]، وزيادة "مِنْ" تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه اسم جنس مضاف، والأمر بخلافِه.
ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال: "ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أبنائهم وقصصهم" وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ "مِنْ" لا تكون فاعلة، ولا يجوز أن يكون "من نبأ" صفةً لمحذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت، كذا قالوا. قال أبو البقاء: "ولا يجوز عند الجميع أن تكون "مِنْ" صفةً لمحذوف، لأن الفاعلَ لا يُحْذف، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَّ حرف لاجر يُعَدِّي، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍّ" يعني بقولِهِ "لم يصحَّ أن يكونَ فاعلاً" لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً البتة.