قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن }: في "يوم" ثمانية أوجه أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في "اتقوه" أي: واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [البقرة: 48] على المشهور في إعرابه. الثاني: أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على "السماوات والأرض" أي: وهو الذي خلق يوم يقول. الثالث: أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً. الرابع: أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإِعادة يوم يقول: كن أي: يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً. الخامس: أنه عطف على موضع قوله "بالحق" فإنَّ موضعه نصب ويكون "يقول" بمعنى "قال" ماضياً كأنه قيل: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن.
السادس: أن يكون "يوم يقول" خبراً مقدماً، والمبتدأ "قوله" و"الحق" صفته، أي: قوله الحق في يوم يقول كن فيكون، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: "قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك "يوم الجمعة القتال" واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق السماوات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة. السابع: أنه منصوب على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي "قوله الحق" أي: حق قوله في يوم يقول كن الثامن: أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه "بالحق"
قال الزمخشري: "وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله "بالحق" كأنه قيل: وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق" قال الشيخ: "وهذا إعراب متكلف".
قوله: { فَيَكُونُ } هي هنا تامة، وكذلك قوله: { كن } فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه، أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة. وقال مكي: "وقيل: تقدير المضمر في "فيكون" جميع ما أراد" فأطلق ولم يقيِّدْه، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال. الثاني: أنه ضمير الصور المنفوخ فيها، ودلَّ عليه قوله: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّوَرِ } الثالث: هو ضمير اليوم أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. الرابع: أن الفاعل هو "قولُه" و"الحق" صفته أي: فيوجَدُ قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تاماً على "الحق".
قوله: { قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ و"الحق" نعته، وخبره قوله "يوم يقول" والثاني: أنه فاعل لقوله "فيكون"والحق" نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان،. الثالث: أنَّ "قولُه" مبتدأ، و"الحقٌّ" خبره، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً. الرابع: أنه مبتدأ أيضاً و"ألحق" نعته، و"يوم يُنْفخ" خبره، وعلى هذا ففي قوله "وله الملك" ثلاثة أوجه أحدها: أن تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: ان يكون "الملك" عطفاً على "قوله" وأل فيه عوضٌ عن الضمير، "وله" في محل نصب على الحال من "الملك" العامل فيه الاستقرار والتقدير: قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور. الثالث: أنَّ الجملة من "وله الملك" في محل نصب على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين، أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكدة، والأصل: أن تكون مؤسسةً. الثاني: أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه. وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله.
قوله: { يَوْمَ يُنفَخُ } فيه ثمانية أوجه، أحدها: أنه خبر لقوله "قول الحق" وقد تقدَّم هذا بتحقيقه، الثاني: أنه بدل من "يوم يقول" فيكون حكمه حكمَ ذاك. الثالث: أنه ظرف لـ"تُحْشَرون" أي: وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس الملك أي: وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت: يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت. فالجواب ما أُجيب به في قوله { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ؟لِلَّهِ } [غافر: 16] وقوله: { { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا. الخامس: أنه حال من الملك، والعامل فيه "له" تضمَّنه من معنى الفعل. السادس: انه منصوبٌ بقوله "يقول" السابع: أنه منصوب بعالم الغيب بعده. الثامن: أنه منصوب بقوله "قول الحق" فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه، ولله الحمد.
والجمهور على "يُنْفَخُ" مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل الجارُّ بعده. وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث: "ننفخ" بنون العظمة مبنياً للفاعل. والصُّور: الجمهورُ على قراءته ساكنَ [العين] وقرأه الحسن البصري بفتحها، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها، فقال جماعة: الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة، والثُّوم جمع ثومة، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة. وقال جماعةٌ: إن الصُّور هو القَرْن، قال بعضهم: هي لغة اليمنِ وأنشد:
1955- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ
نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن
وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة، قال عليه السلام: "كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه" وقيل: في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش. وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال: "وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال: { { وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } [غافر: 64] { { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } [الكهف: 99] فَمَنْ قرأها: "ونُفِخ في الصُّوَرِ" أي بالفتح، وقرأ "فَأَحْسَنَ صُوْرَكم" أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو" قال الأزهري: "قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة" أنتهى، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم. وقال الفراء:"يُقال: نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ" وأنشد:
1956- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ
وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار.
قوله: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } في رفعه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكون صفةً للذي في قوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ } وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو عالم. الثالث: أنه فاعلٌ لقوله: { يقول } أي: يوم يقول عالم الغيب. الرابع: أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛ لأنه لمَّا قال "يُنفخ في الصور" سأل سائِلٌ فقال: من الذي يَنْفُخ؟ فقيل: "عالم الغيب" أي: "يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي: يأمر بالنفخ فيه، كقوله: { { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } [النور: 36ـ37] أي يُسَبِّحُه، ومثله أيضاً قول الآخر:
1957- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح
أي: مَنْ يَبْكيه؟ فقيل: ضارع، أي: يبكيه ضارع ومثله: "وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم" في قراءة مَنْ بني "زُيِّن" للمفعول ورفع "قَتْلُ" و"شركاؤهم" كأنه قيل: مَنْ زيَّنه لهم؟ فقيل: زيَّنه شركاؤهم. والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور، وقرأ الحسن البصري والأعمش: "عالمِ" بالجر وفيها ثلاثة أوجه، أحسنها: أنه بدل من الهاء في "له" الثاني: أنه بدل من "رب العالمين" وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. الثالث: أنه نعت للهاء في "له" وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي.