خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩٢
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }: فيه دليل على/ تقدُّم الصفة غير الصريحة على الصريحة. وأجيب عنه بأن "مبارك" خبر مبتدأ مضمر، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } [المائدة: 54]، وقال مكي، "مصدِّقُ الذي" نعت للكتاب على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، و "الذي" في موضع نصب، وإن لم يُقَدَّرْ حذفُ التنوين كان "مصدق" خبراً بعد خبر، و "الذي" في موضع خفض". وهذا الذي قاله غلطٌ فاحش، لأن حذف التنوين إنما هو للإِضافة اللفظية وإن كان اسم الفاعل في نيَّة الانفصال، وحَذْفُ التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو ندور كقوله:

1980ـ ............... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا

والنحويون كلُّهم يقولون في "هذا ضاربُ الرجلِ": إن حذف التنوين للإِضافة تخفيفاً، ولا يقول أحدٌ منهم في مثل هذا: إنه حُذِفَ التنوين لالتقاء الساكنين. وقَدَّم وَصْفَه بالإِنزال على وَصْفِه بالبركة بخلاف قوله { { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50] قالوا: لأن الأهمَّ هنا وصفُه بالإِنزال إذ جاء عقيب إنكارهم أن يُنَزِّل الله على بشر مِنْ شيء بخلاف هناك، ووقعت الصفة الأولى جملةً فعلية، لأن الإِنزال يتجدَّد وقتاً فوقتاً والثانية اسماً صريحاً، لأنَّ الاسمَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار، وهو مقصود هنا أي: بركته ثابتة مستقرة، و "مصدِّق" صفة أيضاً أو خبر بعد خبر على القول بأن مبارك خبر لمبتدأ مضمر، ووقع صفةً للنكرة لأنه في نيَّة الانفصال كقوله: { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [الأحقاف: 24] [وقوله]:

1981ـ يا رُبَّ غابِطنا لو كان يعرِفُكم ..............

وقال الواحدي: "ومبارك" خبر الابتداء فُصِل بينهما بالجملة، والتقدير: وهذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله: { { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50] وهذا الذي ذكره لا يَتَمشَّى إلا على أنَّ قولَه "مبارك" خبر ثانٍ لـ "هذا"، وهذا بعيدٌ جداً، وإذا سُلِّم ذلك فيكون "أنزلناه" عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته، ولكن لا يُحتاج إلى ذلك، بل يجعل "أنزلناه" صفة لـ "كتاب"، ولا محذورَ حينئذٍ على هذا التقدير، وفي الجملة فالوجهُ ما قَدَّمْتُه لك من الإِعراب.
قوله: "ولتنذرَ" قرأ الجمهور بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو بكر عن عاصم بياء الغيبة والضمير للقرآن، وهو الظاهر أي: ينذر بمواعظه وزواجره، ويجوز أن يعود على الرسول عليه السلام للعلمِ به. وهذه اللام فيها وجهان، أحدهما: هي متعلقة بـ "أنزلنا" عطفاً على مقدر، فقدَّره أبو البقاء: "ليؤمنوا ولتنذر"، وقدره الزمخشري فقال: "ولتنذر" معطوف على ما دلَّ عليه صفةُ الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات ولتصديق ما تَقَدَّمه من الكتب والإِنذار". والثاني: أنها متعلقة بمحذوف متأخر أي: ولتنذر أنزلناه.
وقوله: "أمَّ القرى" يجوز أن يكون من باب الحذف أي: أهل أمّ القرى، وأن يكون من باب المجاز إطلاقاً للمحلّ على الحالِّ، وأيُّهما أَوْلى؟ أعني المجاز والإِضمار، للناس في المسألة ثلاثة أقوال، تقدَّم بيانها وهذا كقوله:
{ { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَة } [يوسف: 82]. وهناك وجهٌ لا يمكن هنا: وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حقيقةً ويكون ذلك معجزةً لنبي، وهنا لا يتأتَّى ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تتكلم، إلا أن الإِنذار لا يقع لعدم فائدته.
وقوله: "ومَنْ حولها" عطف على "أهل" المحذوف أي: ولتنذر مَنْ حول أم القرى، ولا يجوز أن يُعْطف على "أم القرى" إذ يلزم أن يكون المعنى: ولتنذر أهل مَنْ حولها، ولا حاجة تدعو إلى ذلك لأنَّ "مَنْ حولها" يقبلون الإِنذار. قال الشيخ: "ولم يحذف "مَنْ" فيعطف "حول" على "أمّ القرى" وإن كان يَصِحُّ من حيث المعنى لأنَّ "حول" ظرفٌ لا يتصرف، فلو عطف على "أم القرى" لكان مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوزُ؛ لأنَّ العربَ لم تستعمله إلا ظرفاً".
قوله: "والذين يؤمنون بالآخرة" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره "يؤمنون" ولم يتَّحد المبتدأ والخبر لتغاير مُتَعَلَّقيهما، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ، وإلاَّ فيمتنعُ أن تقول: "الذي يقوم يقوم"، و "الذين يؤمنون يؤمنون"، وعلى هذا فَذِكْرُ الفضلة هنا واجب، ولم يتعرض النحويون لذلك ولكن تعرَّضوا لنظائره. والثاني: أنه منصوب عطفاً على أم القرى أي: ولتنذر الذين آمنوا، فيكون "يؤمنون" حالاً من الموصول، وليست حالاً مؤكدة لما تقدم لك مِنْ تسويغ وقوعه خبراً وهو اختلاف المتعلق، والهاء في "به" تعود على القرآن أو على الرسول. { وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } حال، وقدَّم "على صَلاتهم" لأجل الفاصلة. وذكر أبو علي في "الروضة" أن أبا بكر قرأ "على صلواتهم" جمعاً.