خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ
٦٣
-التوبة

الدر المصون

قوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ }: الجمهورُ: على "يَعْلموا" بياء الغيبة رَدَّاً على المنافقين. وقرأ الحسن والأعرج: "تَعْلموا" بتاء الخطاب. فقيل: هو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين. وقيل الخطابُ للنبي عليه السلام، وأتىٰ بصيغةِ الجمع تعظيماً كقوله:

2509 ـ وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم ......................

وقيل: الخطابُ للمؤمنين، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام: فعلى الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم، وعلى الثالث يكون للتقرير.
والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ "أَنْ" مسدَّ مفعولَيْن عند سيبويه، ومسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش، وأن يكونَ بمعنى العرفان فتسدَّ "أنَّ" مسدَّ مفعول. و "مَنْ" شرطية و { فَأَنَّ لَهُ نَارَ } جوابُها، وفتحت "أنَّ" بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبرِ "أنَّ" الأولىٰ.
وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري: "ويجوز أن يكونَ "فأنَّ له" معطوفاً على "أنه" على أنَّ جوابَ "مَنْ" محذوفٌ تقديره: ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ له". وقال الجرمي والمبرد: "أنَّ" الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير: فله نارُ جهنم، وكُرِّرت "أنَّ" توكيداً. وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالىٰ:
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ } [النحل: 119]، ثم قال: { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } قال: "والفاءُ على هذا جوابُ الشرط".
وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً أو مضارعاً مقروناً بـ"لم"، والجوابُ على قولِه محذوفٌ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ بـ لم"، وأيضاً فإنَّا نجدُ الكلامَ تاماً بدون هذا الذي قدَّره".
وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال: "الثانيةُ بدلٌ من الأولىٰ"، وهذا لا يَصِحُّ عن سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع. وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين، أحدهما: أنَّ الفاءَ تمنعُ من ذلك، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ. والثاني: أنَّ جَعْلَها بدلاً يوجب سقوط جواب "مَنْ" مِن الكلام". وقال ابن عطية: "وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى، والأُْولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط، وتلك الجملةُ هي الخبر. وأيضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ البدلَ، [وأيضاً] فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل".
وقال بعضهم: "فيجب على تقدير اللام أي: فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلا بد من إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره: فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم".
وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها، فَالأَولَىٰ ما تقدم ما ذكره: وهو أن يكونَ { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ، وينبغي أن تقدِّرَه متقدماً عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي: فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم. وقدَّره غيرُه متأخراً أي: فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ. كذا قدَّره الأخفش. ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء بـ"أنَّ" المفتوحةِ من غير تقديمِ خبر، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ تقدُّمِ "أمَّا" نحو: "أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي" أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو: "عندي/ أنَّك مُنْطَلق". وقيل: فأنَّ له" خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ له. وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جواباً للشرط.
وقرأ أبو عمرو ـ فيما رواه أبو عبيدة ـ والحسن وابن لأبي عبلة "فإنَّ" بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنه قرأ [بها] بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهُها.
والمُحَادَّة: المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة. قيل: مشتقةٌ مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد. وقيل: من الحدّ الذي هو الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم: شاقَّه أي: كان في شقٍ غيرِ شقِّ صاحبه. وعاداه: أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته.
واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار، ولم يُروَ قولُه:

2510 ـ فَمَنْ يكُ سائلاً عني فإني وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ

إلا بالكسرِ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين. و "خالداً" نصبٌ على الحال.