خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
-يوسف

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا }؛ قال الحسنُ: (أمَّا هَمُّهَا فَأَحَبُّ هَمٍّ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَأمَّا هَمُّهُ فَهُوَ مَا طُبعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ شَهْوَةِ النِّسَاءِ مِنْ دُونِ عَزْمٍ عَلَى الزِّنَا).
واختلفَ أهلُ العلمِ في ذلك، فرُوي عن ابنِ عبَّاس أنه سُئِلَ: مَا بَلَغَ مِنْ أمْرِ يُوسُفَ؟ قَالَ: (حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَاتِنِ). وعن ابنِ أبي مليكة قال: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: مَا بَلَغَ مِنْ أمْرِ يُوسُفَ؟ قَالَ: (اسْتَلْقَتْ لَهُ عَلَى قَفَاهَا وَقَعَدَ بَيْنَ رَجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ) وهو قولُ سعيدِ بن جُبير والضحَّاك والسديُّ.
ورُوي عن ابنِ عبَّاس: (أنَّه لَمَّا راوَدت يوسُفَ جعلت تذكرُ محاسنَهُ وتشوِّقه إلى نفسها، فقالت: يا يوسفُ ما أحسنَ ماء عينيكَ؟ قال: هو أوَّلُ ما سِيلَ على الأرضِ من جسَدِي، قالت: ما أحسنَ وجهَكَ؟ قال: هو للتُّراب يأكلهُ، قالت: ما أحسنَ شَعْرَك، قال: هو أوَّلُ سَتْرٍ من بدَنِي، قالت: ما أحسنَ صُورَتَكَ، قال: رَبي صوَّرَنِي، قالت، يا يوسفُ صورةُ وجهِكَ أنْحَلَتْ جسمي، قال: إن الشيطانَ يُعِينُكِ على ذلكَ، قالت: فراشُ الحريرِ قد بسطتهُ قم فاقضِ حاجَتي، قال: إذن يذهبُ نصيبي من الجنَّة، قالت: أُدخل في السترِ معي، قال ليس بشيءٍ يستُرنِي من ربي.
فلم تزَلْ تدعوهُ إلى اللذة، ويوسف شابٌّ مستقبلٌ يجد من شبق الشباب ما يجدُ الرجل، وهي حسناءُ جميلة حتى لاَنَ لها لما يرى من كَلَفِها به وهمَّ بها).
فهذه أقاويلُ أجِلَّةِ أهلِ التفسير، وقال جماعةٌ من المتأخِّرين: (لاَ يَلِيقُ هَذا بالأَنْبيَاءِ) وأوَّلوا الآيةَ، قال بعضُهم: هَمَّ بالفرار، وهذا لا يصحُّ لأن الفرارَ مذكَّرٌ، وَقِيْلَ: هَمَّ بضَربها ودَفعِها ومخاصمتها، وقال بعضُهم معنى قوله: { وَهَمَّ بِهَا } بمُنَاهَا أن تكون له زوجةً.
وقال أهلُ الحقائقِ: الْهَمُّ هَمَّانِ: همٌّ مقيمٌ ثابت، وهو إذا كان معه عَزْمٌ وعقدٌ ونيَّة ورضًى مثل هَمِّ امرأةِ العزيزِ، فالعبدُ مأخوذٌ به، وهَمٌّ عارضٌ وارد وهو الْخَطْرَةُ والفكرةُ وحديث النَّفسِ من غيرِ اختيارٍ ولا عَزْمٍ مثل همِّ يوسف، والعبدُ غير مأخوذٌ به.
وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:
"إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُواْ أوْ يَفْعَلُواْ بهِ" . عن ابن عبَّاس قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ قَدْ هَمَّ بخَطِيئَةٍ قَدْ عَمِلَهَا، إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا فإنَّهُ لاَ يَهِمُّ ولَمْ يَفْعَلْ" .
وقال بعضُهم في قولهِ { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } قال أبو العبَّاس أحمدُ بن يحيى ثعلب: (هَمَّتِ الْمَرْأةُ بالْمَعْصِيَةِ مُصِرَّةَ عَلَى ذلِكَ، وَهَمَّ يُوسُفُ بالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَأْتِهَا). وَقِيْلَ، هَمَّت المرأةُ عازمةً على الزنَى، ويوسفُ عارَضَهُ ما يعارضُ الشبابَ من خَطَراتِ القلب وحديث النَّفس، فلم يلزمه، وهذا الْهَمُّ ليس ذنباً إذ الرجلُ الصائم يخطرُ بقلبهِ شرابُ الماءِ البارد، فإذا لم يشرب كان غيرَ مُؤَاخَذٍ بما يحسُّ في نفسهِ فيه.
وقال الزجَّاج: (وَهَمَّ بهَا وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأةِ، إلاَّ أنَّ اللهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بأَنْ أرَاهُ الْبُرْهَانَ، ألاَ تَرَاهُ قَالَ: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }؛ اختلَفُوا في هذا البرهان، قال ابنُ عبَّاس والحسنُ وابن جبير ومجاهد: (رَأى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضّاً عَلَى أنَامِلِهِ)، وقال قتادةُ: (سَمِعَ صَوْتاً: يَا يُوسُفُ إنَّهُ فِعْلُ السُّفَهَاءِ، وَأْنْتَ مَكْتُوبٌ فِي دِيوَانِ الأَنْبيَاءِ).
ويقالُ: خرج كَفٌّ بينَهما بلا جسدٍ مكتوبٌ فيه ثلاثةُ أسطُرٍ؛ إحداها:
{ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] والثاني: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء: 32]، والثالثُ: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ } [الانفطار: 10-11].
وعن محمَّد بن كعبٍ القُرظي قال: (مَعْنَى { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }: لَوْلاَ مَا عَلِمَهُ مِنْ قَبيحِ الزِّنَى، وَوُجُوب الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ) وَهَذا كُلُّهُ مَحْذُوفُ الْجَوَاب، وَجَوَابُهُ: لَوْلاَ ذلِكَ لَعَزَمَ عَلَى الْقُبْحِ، وَعَمِلَ عَلَى مقتضى شَهْوَتِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ }؛ أي كما مكَّنَّا له في الأرضِ، كذلك أرَيْنَاهُ البرهانَ { لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ } أي الخيانةَ (وَالْفَحْشَاءَ) يعني الزِّنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ }؛ الذين أخلَصُوا دِينَهم للهِ، ومَن قرأ بفتحِ اللام فمعناهُ: مِن عِبادنا الذين أخلَصْنَاهم واصْطَفَيناهم.