قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى }؛ أي خِفْتُ العصبةَ وبَنِي العمِّ أن يرِثُوا عِلمي دون مَن كان مِن نَسْلِي، ويقالُ: خِفْتُهُمْ على الدِّين من ورائي؛ لأنَّهم كانوا من أشرار بني إسرائيل. قرأ يحيى بن يعمر: (خَفَّتِ) بفتحِ الخاء وتشديدِ الفاء، و(الْمَوَالِيْ) بسكون الياء، يعني ذهَبَتِ الموالِي.
وقلتُ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { مِن وَرَآءِى } أي بعدَ موتِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً }؛ أي عَقِيماً من الولدِ، والرجلُ العَاقِرُ: الذي لا يولَدُ لهُ. وامرأتهُ هي أختُ أُمِّ مرَيم بنت عمرانَ بن ماثان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً }؛ أي أعطِني مِن عندك ولداً، { يَرِثُنِي }؛ يَرِثُ نبوَّتِي ومكاني { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ }؛ العلمَ والنبوَّةَ، أرادَ بذلك يعقوبَ بنِ ماثان وهم أخوالُ يَحيى، وبنو ماثان كانوا رؤساءَ بني إسرائيل، وليسَ يعقوبُ هذا أبو يوسفَ. قرأ أبو عمرو والكسائي: (يَرِثُنِي وَيَرِثْ) بالجزمِ فيهما على جواب الدُّعاء، وقرأ الباقون برفعهما على الحالِ والصِّفة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلِيّاً } أي وَالِياً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }؛ أي وَفِّقْهُ للعملِ حتى يصيرَ مِمَّن ترضاهُ. وقال أبو صالِح: (مَعْنَاهُ: وَاجْعَلْهُ رَب نَبيّاً كَمَا جَعَلْتَ أبَاهُ). وَقِيْلَ: إجْعَلْهُ صالِحاً تقيّاً بَرّاً مرْضِيّاً.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين أنَّ معنى قَوْلُهُ تَعَالَى { يَرِثُنِي } أي يرِثُ مالِي، إلاّ أنَّ حملَ الآية على ميراثِ العلم أولَى؛ لأن الأنبياءَ كانوا لا يَشُحُّونَ بالمالِ، ولا يتنافسونَ على مصيرِ المال بعد موتِهم إلى مستحقِّهِ؛ ولأنه قال (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ولَم يُرِدْ بذلكَ المالَ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبيَاءِ - لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً" وإنَّما دعاءُ زكريا بالولدِ لِيَلِيَ أمورَ الدِّين بعدَهُ؛ لخوفهِ من بَنِي أعمامهِ أن يبدِّلوا دِيْنَهُ بعدَ وفاته، وخافَ أن يستولُوا على علومهِ وكُتُبهِ فيحرِّفُونَها، ويواكلونَ الناس بها، ويفسدون دِيْنَهُ، ويصدُّون الناسَ عنه.