خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }؛ أي إذا فرغتم من مُتَعَبَّدَاتِكُمْ { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } عَزَّ وَجَلَّ بالخيرِ { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } بل أشدُّ ذكراً. وذلك أنَّهم كانوا يَقِفُونَ بعد قضاءِ المناسك يوم النحرِ بينَ المسجدِ الذي في مِنَى وبين الجبلِ، يتناشَدون الأشعارَ ويتفاخرون بذكرِ فضائلِ آبائهم، يقول أحدُهم: يا رب إنَّ عَبْدَكَ فُلاناً - يعني أباه - كان يفعلُ كذا وكذا من الخيرِ. فأمرَهُم الله تعالى أنْ يذكروهُ فهو الذي فَعَلَ ذلك الخيرَ إلى آبائهم، وأنَّ أيَادِيَهُ عندهم أكثرُ وأعظمُ من أيادي آبائهم عليهم.
وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لَهم بعد نزول هذه الآية:
"إنَّ اللهَ قَدْ أذهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمِهَا بالآبَاءِ، إنَّ النَّاسَ مِنْ آدَمَ وَإنَّ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ؛ لاَ فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أعْجَمِيٍّ إلاَّ بالتَّقْوَى" ثُمَّ تَلاَ { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ... } [الحجرات: 13] الآيةُ.
وقال بعضُهم: معناهُ أذكُرُوا اللهَ بالتوحيدِ كما تذكرونَ آباءَكم بذلك؛ فإنَّكم لا ترضَون أن تُنسَبُوا إلى أبَوَين، وكذلك لا ترضَون من أنفُسِكم باتِّخاذ إلَهَيْنِ.
وعن عطاءٍ والربيعِ والضحاك في قوله: { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ }: (هُوَ كَقَوْلِ الصَّغِيْرِ أوَّلَ مَا يَفْقََهُ الْكَلاَمَ (أبَهْ أبَهْ) أي اسْتَغِيثُواْ باللهِ وافْزَعُواْ إلَيْهِ فِي جَمِيْعِ أُمُوركُمْ؛ كَمَا يَفْزَعُ الصَّغِيْرُ إلَى أبيْهِ فِي جَمِيْعِ أُمُورهِ وَيَلْتَحُّ بذِكْرِهِ). وعن أبي الجوزاءِ قالَ: قلتُ لابنِ عباس رضي الله عنه: أخْبرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } وَقَدْ يَأْتِي عَلَى الرَّجُلِ الْيَوْمُ لاَ يَذْكُرُ أبَاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ أنْ تَغْضَبَ للهِ إذا عُصِيَ أشَدَّ مِنْ غَضَبكَ لِوَالِدَيْكَ إذا شُتِمَا).
وأما وجهُ نصب { أشَدَّ } فقالَ الأخفشُ: (اذْكُرُوهُ ذِكْراً أشدَّ ذِكْراً). وقال الزجَّاجُ: (هُوَ فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَنْصَرِفُ لأَنَّهُ صِفَةٌ عَلَى وَزْنِ (أفْعَلَ). وَنُصِبَ { ذِكْراً } عَلَى التَّمْييْزِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }؛ نزلت في مُشرِكي قريشٍ كانوا يقولون في عادتِهم في الحجِّ: اللهُمَّ ارزقنا إبلاً وبقراً وغَنَماً وعبيداً وإماءً وأموالاً. ولَم يكونوا يسألونَ لأنفُسِهم التوبةَ والمغفرةَ، كانوا لا يرجونَ إلا نعيمَ الدُّنيا، ولا يخافونَ البعثَ والنشورَ. فبيَّنَ اللهُ تعالى بقوله: { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي من نَصِيْبٍ ولا ثوابٍ.
والمعنى: مَن يطلب بحَجِّهِ أمورَ الدُّنيا لا يريدُ بذلك ثوابَ الله تعالى، فلا نصيبَ لهُ في ثواب الآخرةِ. وقال أنسُ بن مالكٍ: (كَانُواْ يَطُوفُونَ بالْبَيْتِ عُرَاةً فَيَدْعُونَ وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْمَطَرَ وَأعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ). وقال قتادةُ: (هَذَا عَبْدٌ نَوَى الدُّنْيَا؛ لَهَا أنْفَقَ وَلَهَا عَمِلَ وَلَهَا نَصِبَ). فَهِيَ هَمُّهُ وَسُؤْلُهُ وَطَلَبُهُ.
ثُم بيَّن اللهُ تعالى دعاءَ المؤمنين بقوله عَزَّ وَجَلَّ: { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ }؛ واختلفوا في معنى الْحَسنتين؛ فقال عليٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: { آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } أي امْرَأةً صَالِحَةً، { وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } الْحُورَ الْعِيْنَ، { وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } الْمَرْأةَ السُّوءَ). وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا الْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ، وَفِي الآخِرَةِ الْجَنَّةَ). قال السديُّ: (مَعْنَاهُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا رزْقاً حَلاَلاً وَاسِعاً وَعَمَلاً صَالِحاً، وَفِي الآخِرَةِ مَغْفِرَةً وَثَوَاباً). وقال عطيَّةُ: (مَعْنَاهُ: { آتِنَا فِي الدُّنْيَا } الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بهِ، { وَفِي ٱلآخِرَةِ } تَيْسِيْرَ الْحِسَاب وَدُخُولَ الْجَنَّةِ). وقال مجاهدُ: (مَعْنَى الْحَسَنَةِ: النِّعْمَةَ، فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُواْ اللهَ نِعْمَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّار).
وقيل: معناهُ: آتنا في الدنيا التوفيقَ والعصمة، وفي الآخرة النجاةَ والرحمة. وقيل: معناهُ: آتنا في الدنيا أولاداً أبراراً، وفي الآخرةِ مرافقةَ الأنبياء. وقيلَ: معناهُ آتنا في الدنيا المالَ والنعمةَ، وفي الآخرة تمامَ النعمة، وهو الفوز من النار ودخول الجنة. وَقِيْلَ: معناه آتنا في الدنيا: الدين واليقين، وفي الآخرةِ اللقاءَ والرضاء. وقيل: معناهُ: آتنا في الدنيا الثَّباتَ على الإيمانِ، وفي الآخرة السلامةَ والرضوان. وقيل: معناهُ: آتنا في الدنيا حلاوةَ الطاعةِ، وفي الآخرة لذَّةَ الرؤيةِ. وقيل: معناهُ: آتنا في الدنيا الإخلاصَ، وفي الآخرة الْخَلاصَ.
وقال قتادةُ: (مَعْنَاهُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا عَافِيَةً، وَفِي الآخِرَةِ عَافِيَةً). ودليلُ ذلك ما رُوي عن أنسٍ:
"أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيْضاً قَدْ أُضْنِيَ وَنَحَلَ جِسْمُهُ حَتَّى صَارَ كَالْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللهَ بشَرٍّ أوْ تَسْأَلُهُ شَيْئاً؟ قَالَ: كُنْتُ أقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتُ مُعَاقِبي بهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! إذنْ لاَ تَسْتَطِيْعُهُ وَلاَ تُطِيْقُهُ، إنَّكَ ضَعِيْفٌ لاَ تَسْتَطِيْعُ أنْ تَقُومَ لِعَذَاب اللهِ، هََلاَّ قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار فَدَعَا الرَّجُلُ بذَلِكَ فَشَفَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وأبْرَأهُ مِنْ مَرَضِهِ" .
وقال سهلُ بن عبدالله: معنى الآية: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } السُّنَّةَ { وَفِي ٱلآخِرَةِ } الْجَنَّةَ. وعن عبدِالله بن عباسٍ رضي الله عنه قال: (عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَلَكٌ قَائِمٌ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ يَقُولُ: آمِيْنَ، فَإذَا مَرَرْتُمْ بهِ فَقُولُوا: { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ }. وقال عوفُ في هذه الآية: (مَنْ آتَاهُ اللهُ الإسْلاَمَ وَالْقُرْآنَ وَمَالاً وَوَلَداً فَقَدْ أُوْتِيَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً).
ورويَ أنَّ قوماً قالوا لأنسِ بن مالك: أُدْعُ لَنَا؛ فَقَالَ: { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } فَقَالُواْ: زدْنَا، فَأَعَادَهَا، فَقَالُواْ: زدْنَا، فَأَعَادَهَا، فَقَالُواْ: زدْنَا، فَقَالَ: (مَا تُرِيْدُونَ! قَدْ سَأَلْتُ اللهَ لَكُمُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). قال أنسُ: وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أنْ يَدْعُو بهَا يَقُولُ:
"اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار" .