خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ }؛ يعني الذين عَبدوا العجلَ: { يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ }؛ أي أضررتُم أنفسكم، { بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ }؛ إلَهاً. فقالوا: فإيشُ نصنع، وما الحيلةُ؟ فقال: { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ }؛ أي فارجعوا إلى خالقكم. وكان أبو عمرٍو يختلسُ الهمزة إلى الجزمِ في قوله: (بَاريكُمْ، وَيَأْمُرْكُمْ، ويُشْعِرْكُمْ، وَيَنْصُرْكُمْ) طلباً للخفَّة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ }؛ أي يقتلُ البريءُ المجرمَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ }؛ يعني القتلَ: قال ابنُ عباس: (أبَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ بَنِي إسْرَائِيْلَ إلاَّ بالْحَالِ الَّذِي كَرِهُواْ أنْ يُقَاتِلُوهُمْ حِيْنَ عَبَدُواْ الْعِجْلَ). وقال قتادة: (جَعَلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ الْقَتْلَ؛ لأنَّهُمْ ارْتَدُّواْ. وَالْكُفْرُ يُبيْحُ الدَّمَ). وقرأ قتادة: (فَاقْتَالُواْ أنْفُسَكُمْ) من الإقالةِ؛ أي استقيلوا العثرة بالتوبة. فلما أمرهم موسى بالقتلِ قالوا: نصبرُ لأمر الله تعالى، فجلسوا بالأفنيةِ محسَّبين وأصلبَ عليهم القوم الخناجر؛ فكان الرجلُ يرى ابنه وأخاهُ وأباه وقريبه وصديقه فلا يُمكنهم إلا المضيُّ لأمر الله.
وقيلَ لهم: من حلَّ جيوبَه أو مدَّ طرفه إلى قاتلهِ أو اتَّقى بيده أو رجلهِ فهو ملعونٌ مردودة توبتَه؛ فكانوا يقتلونَهم إلى المساءِ. فلما كَثُرَ فيهم القتلُ عاد موسى وهارون وبَكَيَا وتضرَّعا وقالا: يا رب هلكت بنُو إسرائيل البقيةَ البقيةَ؛ فأمرَهم الله تعالى أن يرفعوا السلاحَ عنهم ويكفُّوا عن القتلِ وقد قتل منهم ألوفٌ كثيرة فاشتدَّ ذلك على موسَى، فأوحى الله تعالى إليه أمَا يُرضيك أن أُدْخِلَ القاتلَ والمقتول الجنةَ؛ فكان مَن قُتل منهم شهيداً ومَن بقي منهم كَفَّرَ عنهُ ذنوبَهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ }؛ أي ففعلتم ما أمرَكُم به فتابَ عليكم؛ أي فتجاوَزَ عنكم، { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }.
وفي بعض التفاسير: أن موسَى عليه السلام قال لهم بعدما رجعَ من الجبل وأعطاهُ الله التوراة: أنكُم ظلمتم أنفسَكُمِ بعبادتِكم العجلَ فتوبوا إلى بارئِكم فاقتلوا أنفسَكم؛ أي ليقتلَ الذين لم يعبدُوا العجلَ الذين عبدوا العجل. فقالوا: يا موسَى نحنُ نفعل ذلك، فأخذ عليهم المواثيقَ ليصبرنَّ على القتلِ، فأصبَحوا بأفنيةِ البيوت كل بَنِي أبٍ على حِدَةٍ فأتاهم هارونُ والاثنا عشر ألفاً الذين لم يعبدُوا العجلَ بالسيوفِ، فقال لهم هارونُ: هؤلاء إخوانُكم قد أتوكم شاهرينَ السيوف فاتَّقوا الله واصبروا، فلعنَ اللهُ رجلاً حلَّ جنوته أو قامَ من مجلسه أو مدَّ طرفَهُ إليهم أو اتَّقَاهُمْ بيده أو رجلهِ. فقالوا: آمينَ. فجعلوا يقتلونَهم إلى المساء.
وقام موسَى يدعو ربَّهُ لَمَّا شُقَّ عليه من كثرةِ الدماء. فنَزلت التوراةُ، وقيل له: ارفع السيفَ، فإنِّي قد قبلتُ توبتهم جميعاً من قُتِلَ منهم ومن لم يُقتل، وجعلت ذلك القتلَ لهم شهادةً وغفرتُ لمن بقي منهم. فكان القتلى سبعينَ ألفاً والقاتلون اثنا عشر ألفاً. وكان السببُ في امتحانِهم بذلك: أنهُ كان فيهم من عَرَفَ بطلانَ عبادة العجلِ؛ إلا أنَّهم لم يَنْهَوا الآخرين لخشيةِ وقوع القتلِ فيما بينهم، فابتلاهم اللهُ بما تركُوا النهيَ عن المنكر لأجلهِ.